ما بعد الاضمحلال

مشاهدات


 


اثير الشمري

حديثي مع اقراني ذو شجون، اذ عادة ما نحاول فهم المجتمع ونماذج افراده المختلفة الذين نصادفهم هنا وهناك، مع اسقاطها على مفاهيمنا التي نعرفها.
في المرة الاخيرة كسابقاتها كنا نتكلم عن التفاهة العالمية والتي اصبحت موضة العصر، فما عاد ابن سينا يمكن ان يتشهر بالطب اذا ما عاصرنا، ويمكن له ان يكون معروفا بعد نشر مقطعي تيك توك يغمز ويلمز حتى يصبح تريند بعنوان "ابن سينا الغماز اللماز"، وهذا ما يؤيده إذ لم يُعرف مكتشفو لقاحات فايروس كوفيد حتى بالمقارنة مع لاعبي كرة القدم المغمورين.
لوهلة ونحن نتراشق الحديث لبتني ذاكرتي بثلاثة مواضيع مهمة كنت قد قرأتها باوقات متفرقة، أولها مقدمة ابن خلدون وما درج في وصف الدولة ودوران اطوارها من القوة الى الوهن، بالرغم من انه اقفل الأمل بعد مرحلة الوهن.. لكن سنرى.
ثانيها قول افلاطون وهو الفيلسوف الألمعي الذي يقال أنه كتب على باب مدرسته: "من لم يكن رياضيا فلا يدخل علينا"، وهذه العبارة لها من الحقيقة نصيب سواء صدرت من افلاطون أو لم تصدر.
ثالثها تتعلق بنهاية الارقام التي تنبأ لها (رامانجن) الذي وصل بمعادلة بسيطة على أن اللا نهاية الرقمية هي قيمة سالبة، وكأنه يريد القول بان الارقام تسير بمسيرة دائرية تلتقي عند نقطة الانطلاق.
وهذا ايضا تؤيده الفيزياء النظرية التي تحسب أن الكون له نقطة اتساع قصوى ما ان يبلغها حتى ينكمش مرة اخرى.
ومن هنا جال بفكري الآتي : لماذا لا تكون العلوم الانسانية والاجتماعية ومنها علم الاجتماع خاضعة لمنطق الرياضيات ايضا؟ وهل يمكننا القول بان المجتمع له نقطة بداية هي ذاتها النهاية بسبب تعاقب الاطوار الاجتماعية؟
في الواقع نرى شيئا من ذلك في مقدمة ابن خلدون، الذي يذهب الى أن للدولة أربع مراحل، تبدأ بالغلبة وتمر بالانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، وتنتهي بالاسراف والتبذير، لكنه لم يقل بتكرار الاطوار والرجوع الى نقطة الانطلاق، بل افترض النهاية فقط.
وفي نظري ان المرحلة الاخيرة هي مرحلة التاسيس للمرحلة الأولى وان لم تكن بذات الشكل وهكذا دواليك.
إن نظرية اطوار الدولة ان كانت تسير بخط مستقيم وفق نظرية مبتدعها، لكنها تصبح دائرة وفق نظرية الرياضيات آنفة الذكر، وعلى هذا فإنها تذهب بنا إلى افتراض أن كل شيء ينتهي الى حيث بدأ، فما عصرنا الحالي الذي نشاهد عيانا غلبة التفاهة على المجتمع الانساني الا مرحلة انتقال أو عودة الى مرحلة المجد، وما هذه المرحلة التي نعيشها الآن إلا مرحلة تأسيس لمفاهيم فكرية حديثة تغذي المجتمع بدلاً عن التفاهة والاسفاف المفرطين.
لكن ماذا علينا في المرحلتين؟
ربما لن ندرك المرحلة القادمة من المجتمع الانساني، لكننا قادرون على أن لا نكون احجار دومينو تقع استجابة لأقرانها الذين يمثلون السلوك العام، بل يمكن أن نكون حجراً من أحجار تأسيسها، كما كان سرجون الاكدي بعد انهيار سومر، ومينا بعد انقسام النيلين، انتهاء بفولتير وروسو وغيرهما.
إن عصر الاضمحلال الفكري والانساني والمجتمعي وغيرهم الكثير، والذي نمر به الان، لمن السهل فيه أن نكون ناجحين فكريا وعمليا، لكن قد لا يأتي النجاح بثماره إلا بعد موتنا وانتهاء هذا العصر.
وعليه يلزمنا القول ان الاضمحلال هو مرحلة التأسيس الفعلية لمرحلة الغلبة، وجل ما نحتاجه الان هو العقل والقلم كحد ادنى، والنجاح هنا مضمون بنسبة لا بأس بها مع احتياج الساحة الى مفكرين حقيقيين وعاملين طموحين، وليس الى تافهين الذي مُلئ المجتمع بهم حد التخمة.
وإن لم يك منفذ نسميه لتنفيذ الافكار، ندع الزمان حينها يصطفي من ينفذ الافكار والتطلعات.
على ذلك قد اتجرأ بالقول أن هذا ينطبق على جميع العلوم وجوانب الحياة، وليست محصورة بعلم الاجتماع وما يقاربه.
رغم هذا، لدينا الخيار أن نكون تافهين، فأيهما سنختار؟

إرسال تعليق

0 تعليقات