سِجالٌ في رِحَابِ المَلَكُوت

مشاهدات


 

علي الجنابي - بغداد

أيَا سَائلي سُؤل محتار؛
{ألمْ ترَ إلى رَبِّكَ كيفَ يَنعُمُ ، ويَغدِقُ على اللُّكَّعِ الفُجّارِ، وكيفَ يَنقمُ ببلاءٍ، وبَوباءٍ يَطرُقُ الرُّكَّعِ الأخيار}؟
كلّا جَليس! وَعَجبي مِن ذا تَساؤلٍ باهِتٍ مِحتار! وَلو أنَّكَ حَقّاً من طَينةٍ بفِطنةِ الأبرارِ، لمَا تَساءلتَ دونَ إستحياءٍ أو إستتار، بِهكذا تَساؤلٍ مَتَخَرِّمٍ من كبوةٍ، و َمتَضَرِّمٍ مِن إنحسارٍ، أو مُتَبرِّمٍ من حبوةٍ صوبَ إنحدارٍ، وهَاهوَ ذا وَجهُكَ مُتَوَرِّمٌ قد غَزَتهُ ندبٌ من حَسَراتٍ ومِن أوزار! فأنصِتْ جَليس، ودعْ عنكَ هوى فِكرٍ بَائِرٍ حَائِرٍ خَوّار، وسَائِرٍ نحوَ جهالةٍ بإنحِسارٍ وإندِثار، أو صَائِرٍ لظُلماتٍ وإستكبار:
لو أنَّ نَفَساً تَبَجَّحَت في عَرَصَاتِ القِيامةِ بحَضرةِ الواحدِ القهار، ولا ظِلَّ يومئذٍ إلّا ظِلُّ العَزيزُ الغَفَّار، بمِثلِ ما عِندَكَ من حيرةٍ تساؤلٍ بإصرار، مُعلِنَةً للمَلائكِ بِمُبتَغاها:
- أرونيَ -أيا ملائِكُ- جَنّتي التي وَعدَ الرّحمنُ بالغيبِ مَن لِلنّفسِ زَكّاها، فإنَّ نفسيَ لها لَلَهوفةٌ، ولرؤيا الرَّسولِ لَشَغُوفة، ولكوثرٍ وسُقياها..
- أَوَ تَحِبُّ النَّبيَّ، وتُبغِضُ مَن لرسَالتهِ عَاداها؟
– أجلْ، فَدتهُ النَّفسُ، بما مَلَكتُ مِن قِلاعٍ كانَ عَضُدي قد شَيّدَها وَبَناها..
– أوَتظنُّ أنّ نفسَكَ عَرَفَت ربَّها مَعرفةً كما رَنَتِ العقيدةُ بِرناها؟
– لا رَيب، وإلّا لَمَا عَبَدَتهُ عُقوداً بِكَبدِها وبَلواها!
– أوَأحَبَبتَ الرّحمنَ كما أحَبَبتَ رسولَهُ، وكنتَ تُسَبِّحُ بحمدِهِ في عَشيِّةٍ، وفي ضُحاها؟
– أجل، وأَجَلَّت جَلالَ عَرشهِ، وأهلَّتْ بتوحيدِ ربوبيةٍ بنُسُكِها وبمُقتضاها..
– حَسنٌ، أَفمِن إِمَارةٍ، فتُرينا بعضَ سِيماها؟
– أجَل، وهوَ أجَلُّ وأعلمُ بمُبتدأِ النَّفسِ وبمُنتهاها، فلقد رَحَلَتِ النَّفسُ في رِحلةِ حجٍّ ونِداها، ورنَتِ وحَنَت الى نَداها، لتَنجوَ من شحٍّ ومن جفاها، ولتَرجوَ طيبَ رحمةٍ كانتِ للنّفسِ مُرتجاها…
– وهل جَنَتْ نفسُكَ يومَها عفواً عمّا تَقَدّمَ مِن ذَنبِها وسَوآها؟
– لا ريبَ، وإلّا لَهَوَتْ النفسُ في هولِ إِنكارٍ لوعدٍ من الرَّحمنِ سَابقٍ لضيوفهِ، ولَعَوَتْ في غَيِّها وهَواها! كَثُرَت تساؤلاتُكم بصَداها، فَأرونيَ جَنّتي، وكَفى مُسائَلةً بعُتِيِّها وجَفاها..
– ليسَ قبلَ أن تصِفَ لنا صِلتَكَ بالرَّحمنِ، وكيفَ فؤادكَ جَلَّاها؟
– نعم، صِلةٌ عُظمى! إذ كانَ ربّي مُستَجيباً إن دَعوتهُ في إشراقةٍ، أو في ضُحاها…
 – لَعلَّ ذاكَ أستدراجٌ لا إجابةٌ لدعوتِكَ ومَرماها؟ وما كانَت عَطايا الرَّبُّ عَلامةً لمَغفرتهِ ومداها؟ أمَا مِن إمارةٍ سِوَاها؟
– أجلْ، فقَد عَرفتُهُ مِن خلالِ أَلَقِ آياتهِ، وعَبق شَذاها..
– أمَا وقد جئتَ بالحَقِّ، فَهَلّا حَدَّثتَنا عن قَبَسٍ مِن رنا كلماتهِ، وأَنَسٍ من سَنا سَناها؟
– كيفَ؟ إن كنتُم في شَكٍّ، فأسألوا أُجِبكمُ تحتَ ظِلالِ هُداها!
– أحسنتَ إذ ألزمتَنا حُجَّةً بِمغزاها، فَعَمَّ تَسَائَلَت مُتونُ "النَّبَإِ الْعَظِيمِ" في مَثناها؟ وما (دِهَاقًا، غَسَّاقًا، ثَجَّاجًا) إذ كنتَ تتلُوها وتَتَغَنّاها؟
– فأمّا (النَّبَإِ الْعَظِيم) فالقيامةُ، وأمّا مفرداتُها، فليسَ لزاماً لأكونَ عالِماً بقَريضِ البلاغةِ، وبعَريض فَضاها!
– بيد أنّكَ كنتَ عالِماً بحُبِّ النساءِ وقَصٍّ لخُطاها، ولُبِّ البنينَ، وجُبِّ القناطيرَ من ذهبٍ وفضةٍ، ورَصٍّ لحَرثٍ وما بَناها. أنّى لكَ مَعرفة الربِّ إذ تَستعجِمُ كلماتَهُ، وتَستحجمُ مُرتجاها؟ لا تثريبَ، فحَدِّثْنا إذاً عن عمومِ جمال سورةِ "الشعراءَ" أو كمالِ "الشورى" ومجراها؟
-أمّا ذاكَ فَنَعَم، فأمّا الأولى فَقَد أظهَرَتِ الشعراءَ في أوديةِ غَيِّهمُ ومآلِ رَدَاها، وأمّا الثَّانيةُ فقد أزهَرَت إمتثالَ شِرعةِ الشورى بين نفوسنا حينَ نَجواها.
– ما رَدُّكَ هذا إلّا تأويلٌ لجزءِ آيةٍ في رحابِ السَّورةِ وأسوارِ بَهاها! أفَتَقَوَّلَت نفسُكَ هذا الجواب، أم أوَّلَتْهُ من خيالِ في رُباها؟ ما تَقولُ يا عبدَالله في خَسارةِ (الأقصى) ومُحتَواها؛ أولى قِبلتَيكَ، وكيفَ كانت هواجسُكَ يومئذٍ ومُقتضاها؟
– لا ذنبَ ليَ إذ أنا مُستَضعَفٌ، وإذ أسواطُ حاشيةِ زعيمِنا صوبَ ناصِيتي فاغِرةً فَاها؟
-أوَحَقّاً (سَوطٌ) كَنَسَ رجولتَكَ، وأخنَسَ رجالَ أمّةٍ مُتَرامٍ أطرافُها خَشيةَ حاشيةِ زعيمٍ جائرٍ، وخائرٌ إن صَدَقَت أنفسُكم نواياها؟
– حَسبُكم! أيا مَلائكٌ! وكَفى كَشفاً للنَّفسِ وسَوْآها! أعيدونيَ للدُّنيا بفُجورِها وتَقواها، كي أدرُسَ من جديدٍ قُرآنَها، وأحرسَ رَوْضَتَها وقِبلَتاها، وكي أَسيحَ في مَلكوتِ ربٍّ مَجيدٍ، وأَستريحَ في رُبوعِ شِرعتهِ بِبَصرٍ مِن حَديد، فَأتَفكَّرَ بآلائهِ بفكرٍ مُتَأملٍ سَديدٍ، فلَعلّيِ أعرِفُ فألزَمُ بخافقٍ زاهدٍ وسَعيد، ولصِلةٍ مع ربِّي مَفقودةٍ أستَعيد وأستَزيد. ولكي أزيحَ زيفَ حُبٍّ لرسولٍ رؤوفٍ حَميد، فأنتصِرُ لرسالتِهِ نصراً تليداً، فلا فَرقَعاتٍ مِن تَظاهراتٍ مُقَرقَعات، عند كلِّ صَعيد.
ولكيلا تَتَبَجَّحَ النَّفسُ بعَرَصَاتِ الشَّكورِ الرَّشيدِ، بسَفاهةٍ عن حُسْنِ إيمانِها وعَن حُسْناها.
-قد سَبَقَ القولُ من المليكِ، ألّا رجعةَ إليها -يا عبدَ الله- فَإرتَقِبْ ونفسَكَ الآن حُكمَ الرَّبِّ الكَريم في بَلواها، ولْتَنظُرْ كيفَ سيكونُ مَثواها، وكيفَ سيكونُ مَأواها، ولاتَ حينَ مَناصٍ في تَأفُّفٍ في شَكواها.
{ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا...}.


إرسال تعليق

0 تعليقات