فائزة محمد علي فدعم
إحياء الليل : أي قضاؤه في العبادة . وليلة الخامس عشر من شهر شعبان تبدأ مع مغرب يوم 14 وتنتهي مع فجر يوم 15 . ولها أهمية خاصّة في الإسلام فقد تم فيها تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام بمكة المكرمة بالعام الثاني من الهجرة على أرجح الآراء بعد أن صلى المسلمين قرابة الستة عشر شهراً تقريباً تجاه المسجد الأقصى . يحييها عدد من المسلمين بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن والدعاء .
والمَحْيَا : هي ليلة جميلة جداً يعتزُ ويهتمُ بها الناس في العراق عامة واهالي مدينة بعقوبة في محافظة ديالى خاصة لأنها عطرة الثواب . كانت المُناسبات في ذلك الزمان قليلة تُعدُ على رؤوس الاصابع . ويستعد لها الاهالي للترويح عن انفسهم واحداها هي ( ليلة المحيا . وتعني البقاء حتى صلاة الفجر للعبادة ) اكثر البيوت كانت تحتفل بها لأنها من احلى الليالي التي يستعد لها النساء والاطفال . بل ينتظروها بفارغ الصبر ويبدئون بالتهيؤ لها بمساعدة بعضهم البعض ومشاركة الجار . كان في كل محلة دار او داران او اكثر يختارون البيت الذي ستقام فيه قبل عدة ايام ثم ينظفوه اولا ويغسلون الحِب بالسكري . وهي طابوق خفيفة يجلونه بها ليظهر لونه اصفر جَذاب (كوز الماء الذي يسميه العامة ( الحِب ) بكسر الحاء هو من الموروثات الشعبية العراقية التي تكاد تكون على وشك الانقراض في الوقت الحاضر . وجاء في القاموس إن الكوز معناه في اللغة إناء من فِخّار أو غيره له أذن يُشرب فيه أو يُصَبُّ منه الماء ) ويحضر الفراش مع الحصير ( والحصير : هو بساط مصنوع من جريد النخل ) ليجهز به المكان الذي تقام به المِحيا . والفراش تكون الوانه زاهية ويجهز طحين الرز واللوز بعد سلقه وازالة القشرة الخارجية ليصبح ناصع البياض والنشاء لصنع الحلاوة والمحلبي وحلقوم المستكي والحامض حلو بألوانه الجَذابة والشموع والگلبدان الذي يوضع به ماء الورد ( الگلبدان : هو مرش ماء الورد )
والرحلة : وهي عبارة عن مسند من الخشب يوضع عليه القران الكريم وعدة مصاحف لقراءة الختمة التي تبدأ من الليل الى الفجر من قبل النساء وهنَّ يرتدينَّ احلى الثياب وكل واحدة وما عندها من زينة ويحضر دهن الورد الذي يحفظ عند صنع ماء الورد وهو (الگشوة ) ويتم جمعه بعد ان يبرد القِدر ويوضع في ًقناني للتعطر في المُناسبات وكان الاطفال يقومون قبلها بعدة ايام بجمع الحصى الصغيرة جدا و ( الخرق ) وهو قطعة من القماش القديم الذي يُقطع على شكل مُربعات ويوضع فيه الحصى والكبريت الاحمر مع القليل من البارود الذي يتم لفهُ على شكل دائري وبداخلها هذه المكونات بخيط يسمى ( التيرة ) او (البوتاز) وهي مفرقعات عالية الصوت والجودة دويها يُبدد هدوء الليل عند استعمالها تضرب بقوة في الحائط او الشارع وبين مُؤيد ومعارض لكنها اقلاق لراحة الجيران عند الليل وخطر ايضا بعد انفجارها يتناثر الحصى بقوة وكان بعضهم يشتم الاطفال ويطردهم لكن المُحاولات تتكرر مرات عديدة حتى شُروق الشمس والاولاد يلعبون (البلبل حاح) وهي لعبة تخص الذكور . والبنات الصغيرات لا يقربنها لان العصا تطير عاليا وبعيدا عند ضربها والامهات يجهزنَّ ما يسمى (الجتاية ) وهو الوشاح الذي يضعوه على رأس البنات عند قراءة القرآن وفي نهار ليلة المِحيا يتعاونون فيما بينهم لتجهيز الطعام بكافة اصنافه ويُوضع في غرفة كبيرة استعدادا لهذه الليلة .
كانت اخر مِحيا حضرتها عند بيت السيد ابو قاسم والد السيد محمد حسين السعدي (الآشجي ) الان مطعم العافية . كانت بيوتنا مقابل المطعم قبل إزالتها إثرَ تعديل نهر خريسان . ذهبت مع والدتي عندما كنت صغيرة ونحنُ في ابهى حُلَّة لإحياء تلك الليلة مع باقي الجيران . جلسنا والنسوة كل واحدة مع اطفالها في غرفة المِجاز وهي ( مكان فسيح للجلوس عند المدخل ) وكانت توجد غرفة على اليد اليمنى مملوءة بأرقى واطيب اصناف الطعام . اذكر من ضمنها طبق كبير مكون من الطماطم المقلية المُغطاة بالباذنجان واللحم وكان يجهز للسحور لان النسوة يصبحنَّ في النهار التالي صائمات وارغفة الخبز مُغطاة بشرشف ابيض خفيف ورائحة البخور تملأ المكان وبعد التسبيح والصلاة على رسول الله وآله تقدم الحلويات والماء كعشاء خفيف رغم ان اكثر الاطفال عند الساعة الثانية عشر ليلا ينامون ولكي يبقى بعضهم صاحيا يخرجون الى باب الدار وعند رمي البوتاز او سماع صفارة الجرخجي يهرع البنات الى الداخل (الچرخچي : كلمة تركية استخدمت في اللهجة العراقية وتعني الحارس الليلي و(جَرَخ) يعني دائر أو دورة والأسم متأتٍ من دورانه في الأزقة ويسمى أحيانا النوبجي ويعني الذي يأتي بالنوبة أي بوقت معين أو مدة عمل محددة كما يسمونه في الجنوب بالبصونجي وأحياناً (الوحَّاش) لأنه يخرج في وحشة الليل )
كانت تلك احلى الليالي بين الضحك واللعب وبكاء الاطفال وصخبهم وقبل صلاة الفجر يتناولون طعام السحور وبعد الصلاة بقليل يذهب كلٌ الى بيته والسنتهم تلهج بالدعاء وعند الضحى يتجمع البنات الصغيرات في البيت الذي اقيمت فيه المِحيا لتوزيع الطعام الفائض على الجيران . ومن الطرائف التي حصلت معي : قامت صاحبة الدعوة بعمل طبق كبير وارسلتني انا وصديقتي الى بيت ( فلان ) وكان البيت الذي ارسلتني اليه بعيدا . ولان والدتي تحذرني من الابتعاد كثيرا خوفا عليَّ وتقول الواوي ( ابن اوى ) يأكل الاطفال فما كان مني الا ان اختصرت الطريق وذهبت الى اقرب بيت في الدربونة واعطيتهم إياه ولم اكن اعلم ان صاحبة هذا المنزل والسيدة التي ارسلت الطعام على خصام والعلاقة بينهم مقطوعة لأنها عند الظهيرة جاءت الى بيتها وقبَّلتها والكل ينظر باستغراب وهي تشكرها وتصالحا وكانت اصابع الاتهام قد توجهت اليَّ وانا فعلت ذلك بعفوية خوفا من الوالدة والواوي .
ايام لا تُنسى وعادات اندثرت لكنها لا تُمحى لأنها مَخزونة في ارشيف الذاكرة ...
ملاحظة : يطلق عليها في الدول العربية اسماء مختلفة منها :
الامارات : "حق الليلة "
سلطنة عمان : "القرنقشوه أو الطوق "
دولة الكويت : "ليلة الناصفة "
دولة قطر : "ليلة النافلة "
جمهورية مصر : "عيد النصف " أو " مهرجان المحمل "
المغرب : بـ " ليلة الدردبة " وتعرف في العديد من الدول بأسماء أخرى مثل : " ليلة الدعاء " و" ليلة القسمة " و" ليلة الإجابة " و" الليلة المباركة " و" ليلة الشفاعة " و" ليلة الغفران والعتق من النيران "
0 تعليقات