الانتفاضة العراقية تدشّن صفحة جديدة من توهجها

مشاهدات



د. باهرة الشيخلي


الإقبال على تأسيس أحزاب جديدة تفتقر للتمايز عن بعضها البعض سببه مطامع مادية وطموحات سياسية للمشاركة في السلطة بأي طريقة، وتقف وراء ذلك عقلية انتشرت مع العملية السياسية الجارية في العراق.

شباب الحراك الشعبي.. توهّج الثورة وسطوعها

التغيير المتكرر لموعد إجراء الانتخابات المبكرة في العراق كشف عن أن أحزاب السلطة في البلاد، التي استشعرت أنها فقدت الكثير من قاعدتها الشعبية بفعل الثورة الشبابية في أكتوبر 2019، لم تستكمل تفصيل هذه الانتخابات على المقاس الذي تريده.

منذ يوم الخميس 30 يوليو 2020، عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إجراء انتخابات مبكرة وحتى يوم الثلاثاء 10 أكتوبر المقبل، وهو الموعد الأخير الذي قرره مجلس الوزراء لإجراء الانتخابات العامة، عملت تلك الأحزاب على ترتيب أوراقها وابتكار أكثر من حيلة لجرّ النار إلى خبزها لكي ينضج ولا ينضج خبز الحراك الشبابي الذي فرض إجراء هذه الانتخابات.

من هذه الحيل التي فضحها الحراك الشبابي تسجيل المفوضية العليا للانتخابات في العراق 438 طلبا مقدما من الأحزاب والحركات والتجمعات السياسية، منحت 230 منها الموافقة وقالت إن البقية قيد التدقيق. هذا الرقم لم يشهده تاريخ السياسة العراقية، وربما حتى تاريخ السياسة في العالم. كما استطاعت أحزاب السلطة إغواء بعض الشخصيات في الحراك الشبابي لتأسيس أحزاب والمشاركة في الانتخابات العامة للإيحاء بأن الحراك الشبابي موافق على إنهاء ثورته بالاشتراك في هذه الانتخابات، في حين أن هذا الحراك نبذ الشخصيات التي أسست أحزابا باسمه لأن هذه الانتخابات ستجري خارج الاشتراطات التي وضعها.

من بين هذه الأحزاب التي زُعم أنها ولدت من رحم ساحات التظاهرات، تجمّع “البيت الوطني” بقيادة الناشط حسين الغرابي، وحركة “امتداد” للناشط علاء الركابي، كما تم تسجيل كيانات وحركات جديدة مدعومة من شخصيات سياسية وأحزاب دينية نافذة في البلاد بأسماء مدنية وثورية لمتظاهري أكتوبر 2019 في العراق، في خطوة عُدّت محاولة لخداع الشارع والناخبين والتشويش على الكتل الجديدة.

يصف النائب المستقل في البرلمان العراقي باسم خشّان في تصريح صحافي زيادة أعداد الأحزاب الجديدة بـ”المقلب”، معتبرا أن “الأحزاب التقليدية والقديمة، المعروفة بأكل حقوق العراقيين، عملت على تأسيس العشرات من الأحزاب من أجل خداع العراقيين بالانتخابات المقبلة والحصول على أصواتهم، لتعود الأحزاب الجديدة بالتحالف مع أصولها الحزبية، فيكون مقلبا بحق المواطنين”.

الحراك الشبابي يرى أن أي انتخابات تجري في ظل الأسلحة المميتة للميليشيات الموالية لإيران ستكون لصالح إيران، وطالب بحصر السلاح بيد الدولة. ولم يتحقق هذا الشرط الذي تعهد الكاظمي بتنفيذه وبقيت القوات الميليشياوية تتفوق على القوات الحكومية، بل إن الميليشيات اخترقت القوات الحكومية عبر ما وصف بدمجها في القوات الحكومية.

كشف موظف في الدائرة القانونية بمفوضية الانتخابات في تصريح صحافي عن وجود فصائل مسلحة تقف وراء كيانات سياسية عدة تقدمت أخيرا للحصول على ترخيص بالمشاركة في الانتخابات، ومنها كيان في سهل نينوى وآخر في ديالى وثالث في كركوك، يُعتقد أن لها علاقة بكتائب حزب الله وبدر والعصائب تحديدا.

ويرى متابعون للشأن العراقي أن استسهال تأسيس الأحزاب والإقبال الشديد عليه، يمثّل مظهرا على تشوّه الحياة السياسية في البلد وسطحيتها وعدم ارتكانها لأفكار وبرامج.

هذا الإقبال على تأسيس أحزاب جديدة تفتقر للتمايز عن بعضها البعض سببه مطامع مادية وطموحات سياسية للمشاركة في السلطة بأي طريقة، وتقف وراء ذلك عقلية انتشرت مع العملية السياسية الجارية في العراق منذ قرابة 19 سنة قائمة على اعتبار الحكم غنيمة تدرّ على أصحابها الأموال وتوفّر لهم الوجاهة والمكانة في المجتمع.

وجّه كاتب عراقي نصائح وتنبيهات وصفها بأنها “جرس إنذار” للقوى الوطنية العراقية والعربية كافة وليس لأي طرف محدد فيها، وهي تواجه تنفيذ أخطر المخططات المخابراتية متعددة الهويات كالبريطانية والإيرانية والأميركية والموساد والتي تعمل كلها على اختراق القوى الوطنية، وتفتيتها من الداخل، وقال “هذا ما نراه واضحا في محاولات المخابرات الإيرانية اختراق الانتفاضة في العراق ولبنان والسطو عليها وتجييرها لصالحها واغتيال أمل العراقيين واللبنانيين في التحرر من الغزو الإيراني، ومن بين الوسائل اختراع أسماء توحي بأنها من ضمن الانتفاضة وسرقة شعاراتها واسمها، وهي حقيقة واضحة جدا ومن لا يراها جاهل بأهم ظواهر العمل السياسي وهو التدخل المخابراتي لاختراق من يشكلون خطرا على مخططات تلك المخابرات”.

رداً على دعوات بعض المشاركين في العملية السياسية إلى شباب الحراك الشعبي بتوحيد الأحزاب التي أسسوها والدخول إلى الانتخابات بقائمة موحدة، قالت صحيفة “مدارات الثورة” المقربة إلى منتفضي أكتوبر، إن ثورة لم تحصر رؤيتها عندما تبنّت التغيير بتبديل الوجوه فقط، بل ركزت على إزاحة المتنفذين الذين استغلوا السلطة لأغراض شخصية وحزبية ضيقة وامتدت أياديهم، الملطخة بالدماء والسرقات، إلى المال العام، واغتنوا بمال الفساد وفشلوا في الأداء وحنثوا بالقسم والتفوا على القوانين، وشدّدت الصحيفة على أن هذه الشخصيات والأحزاب والميليشيات يجب أن تحتويها السجون لا كراسي السلطة.

وهذا يعني أن الحراك الشعبي الواسع لن يكون معنيا بانتخابات لا تجري وفقا للاشتراطات التي وضعها، وإذا كانت تلك الدعوات قد تزامنت مع الخفوت المؤقت للحراك، فإن الحقيقة التي لم تدركها أحزاب العملية السياسية الفاسدة وشخصياتها المنتفعة هي أن هذا الخفوت المؤقت لا يعني انطفاء الثورة أو عدم سطوعها وتوهجها مجددا، فالمنهج العملي يقول: إن الثورة ليست إلا امتدادا لجميع أنشطة الحركة الاجتماعية التي سبقت اندلاعها من وقفات واحتجاجات وتظاهرات وهبّات شعبية، وستكون، وهي المؤثرة الملهمة لكفاح المحرومين، رافعة لموجات معارضة شعبية مقبلة لا ريب فيها.

العراق أصبح اليوم بؤرة للقتل والدمار بسبب الأحزاب السياسية العميلة وميليشيات القتل التي أسسها المحتلون سرًّا وعلانية ودعموها ولا يزالون بالمال والسلاح والجهد الجوي، ناهيك عن دور القوات الحكومية في انتهاك الأمن الذي كان يفترض بها أن تدعمه وتعززه. فالحكومة تلقي بالإنسان في السجون ثم تساومه ميليشياتها على لقمة تأتيه من ذويه فلا يدخلونها إلا بعد أن يقبضوا رشوة كما تساومه على اتصال هاتفي وحتى الذهاب إلى قضاء حاجته!

خلاصة القول إنّ الانتفاضة لم تتوقف لتعود مجددا، وإنما هي تبدأ صفحة أخرى من صفحاتها، فقد كانت المرحلة الأولى مرحلة إعلان المطالب وتحديد الأهداف والآن تنتظم فعالياتها في تعيين خطوات التغيير الشامل الذي يزيل ما تسمّى العملية السياسية وأصنامها، منذ مجلس الحكم حتى حكومة الكاظمي.

الانتفاضة التي قدم شبابها أكثر من ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى لا تزال تواجه قمع حكومة المستوطنين التي لا تملك سوى العنف والقتل والإرهاب والسلاح المميت. إن الانتفاضة السلمية في مرحلتها الثانية أعدّت لائحة قانونية بالوقائع الجنائية كلها وجرائم السلطة ضد انتفاضة الشباب، كما أعدّت ملفات الفساد والمفسدين بالأسماء والأرقام.

الأمر الأهم أن انتفاضة تشرين تدعو شعبها إلى مقاطعة سيرك الانتخابات وتكشف أمام الرأي العام سوق المضاربات بين أحزاب المستوطنة الخضراء وميليشياتها التي تشهد في ما بينها صراعا على المقاعد النيابية وما يترافق معها من تبادل الأصوات والرشاوى.

اليوم تعيد انتفاضة العراق الأمل لإنجاز لحظة الحرية والعبور بالدولة من قاع المستوطنين الذين دمروا العراق إلى رحاب المستقبل.

إرسال تعليق

0 تعليقات