الناقد عبدالباري المالكي
ليس من اليسير أن يحاول أحد سبر أغوار سفر خالد لشاعر مثل شاعر الأمّة الكبير الأستاذ محمد حسين آل ياسين .
لعل الغوص في المشاهد التعبيرية لهذه اللوحة الفنية الخالدة والتحفة الرائدة التي أحاطت النفس من خلال موسيقاها اللفظية والروحية , تجبر السمع على الاصغاء ، والشعور على الانجذاب ، لرنين استمد نغمَه من عاطفة منسابة ، ووجدان متدفق ، وأنين متهدج ناهيك عن فؤاد متهجد .
إن ما يميز قصيدة أستاذنا الكبير آل ياسين (قبلة على جبين عدن) هي اللقطة التصويرية التي تمثلت بالألم واللذة ، وأخرى تمثلت بالحزن والحنين ،وثالثة تميزت بالشوق والندم عليه ، وهي صور شعرية شيّعها شاعرنا بقدرته التي تعودناها فيه , فالسعادة وانعدامها ، والفرح وانقطاعه ، هما الوجهان النقيضان لمشاعر عشقٍ عارمة هزَّت كيانه ، وتركت ظلّها فيه ، وتسللت شريانه ، وتناثرت فيه قيمةً وأداءً لكلّ مشهد من مشاهد قصيدته ولقطاتها التصويرية التي التقطتها العين وأملاها الخيال ، وهو إذْ ذاك ينقلنا محمولاً على كلمهِ ، ومثقلاً من دون المتاع فمه , وتلك كانت ومضةً رائعة تلتْها ومضاتٌ أخرى لمحبٍّ غدا في مثل هذه اللحظات قديساً يطوف حول معشوقه بطوافٍ أورثه الضنى وأنهكه الشوق ، لحظات قد تبدو للوهلة الأولى أنها لحظات ضعف وهوان ، لكنها في حقيقتها صراع نفسي يهزّ الكون بصوره الإيحائية التي تستعرض الوجد بما يربو على الرحمِ .
إننا لا نكاد نتجاوز بيتاً من أبيات قصيدته حتّى نعود أدراجنا ، لأننا نجد في طياته ذلك الهيام بنشوة العشق لجنّتهِ (عدن) وهو يمزجها بواقعه الذي مازال يقتفي أثراً فيعبق منه فيه دمه الفائر ، فيصبح ويمسي مثالاً لمن لم يكن له إلا مأواه الوحيد ينقاد إليه ، حتّى إذا فقدَها , فقدَ معها كلّ أمانيه التي كانت تقيهِ الوحشة والوحدة ، ليكون ذلك المأوى عزاءه للفوز بطيفٍ لم يكن يجرؤ على الظهور في وضح النهار، وهو شعور لأوسع نطاق يحمل بين ظهرانيه مشاهدَ حيةً من حبٍّ روحي لأملٍ يُرتجىٰ ولا يُنال ، وأمل يُصنع ولا يتحقق ، وهو تأمل راقٍ لصور تعانقت استوحاها شاعرنا الأستاذ من شكواه المستمرة ، ويستمدّها
من محنة ساقها له قدرُه المجنون :- .
( ومحنتي فيك أني قاتلي حكمي)
ويمضي الزمن ... ويزول عهد الشباب ... ولا تفتر وقدة العشق في دمه الطامح رغم سنيّ الهرم والعجز ، فهو لا ينفك يفزع الى معبد عينيها اللتين تصنعان وجوده الأسمى ( وما دونه عدم )، وتصنعان لياليَه التي اجتاحت عليه سكينته عشقاً وولهاً، حتّى إذا صحا شاعرُنا ، فهو لم ينمِ ، لأنها لم تكن وليدة انفعال أو أحاسيس يمكن أن يقال عنها أنها مفرَطة ، وإنما كانت أنغاماً تدفقت في روحه ، وداعبتْ هدوءه حتّى لفّتْه بلفاف عشق رفرف فوقه ، وتمكنت منه ترنيمة أضرمت فيه بكلّ صمت ، ولأنه قديس... فأنه يستطيع أن يرى بعيون مفتوحة لا يشوبها غموض ، ولا يحتاج فيها الى قنديل اذْ يتعثر بخطواته ، ولا ينظر من خلال نافذة كعين مقلوعة .
ولأنه شديد الاحساس يطرب للحسن والجمال ، فانه تؤرقه لحظات الانتظار بنفس صادقة ، وعذوبة رقيقة ، فهو يجتاز هذه الحياة متغلباً على الشوك المحدّق به حتى يمضي مبتهلاً بقلمه ليكشفَ لنا ستاراً عن لوحة فنية هي آية في الإتقان والإبداع ، برع في تمثيلها ، وأجاد في أدائها ...وصفاً ولفظاً ومعنى أغنت القارئ عما استولته من ظنون وحيرة امام هذا التألق ، تستتبعه قوة الثقة ورقي الكفاح من أجل عشق مجيد ، امتاز به شاعرنا عن غيره ، فاستأثر قلوب قرائه واهتمامَهم ، وذلك للأثر الحسن في نفوسهم وهو يلقيه عليهم ايحاءً تارة ، وتصريحاً تارة أخرى وذلك لقدرته الكبيرة في الإمتاع والإقناع ، بأدب إنساني رفيع ، وفنّ حــــــــيّ .
(قبلـــة علـــى جبـــــين عـــــدن )
حسبي أتيتك محمولا على كلمي
وفوق ظهريَ من دون المتاع فمي
أطوف حولك قديساً بلا حرم
كما يطوف حجيج الله بالحــــــــرمِ
حتى كأن طريقي يقتفي أثرا
ما زال يعبق مني فيه عطرُ دمـــي
إن كان ما بيننا يا حلوتي نسب
فبي من الوجد ما يربو على الرحمِ
أقول لليل لِمْ خاتلتني شفقاً
لم تصح من سكرة اللقيا ولم أنـــــمِ
إني حلمت وبعض الحلم مضيعة
لكن عزائيَ أني فزت بالحلــــــــــــمِ
حملت شوقك آها لا انقطاع لها
وإن بدا لك مني ثغر مبتســــــــــــــــمِ
من أشتكي ولمن أشكو وأنت هما
ومحنتي فيك أني قاتلي حَكَمــــــــــــــي
الميم والنون في (مَنْ) علَّما شفتي
أني إلى عدني أسريتُ لا عدمـــــــــــي
بكيت عمريَ قبل الحب من ندمٍ
والآن أبكي مع اللقيا على ندمـــــــــــي
ظلت لحون قصيدي ترتجي نغما .
مبرّأ الوقع حتى كنت لي نغمــــــــــــــي
فإن خشيت على عهد الشباب مضى
فبعد عينيك لا أخشى على هرمــــــــــــي
فُديتِ يا شفة الدهر التي اختزلت
بهمسة أحرقت أذني من الضّــــــــــــــــَرمِ
هناء عينيَّ أن تبقَيْ طريقهما
إلى الحياة وإلا فالوجود عمـــــــــــــــــي
وأنت تدرين بعض اللوم من وَلَهٍ
فلو صحا العاشق الولهان لم ينـــمِ
وليس عنديَ إلاّ صارم ذربٌ
في الصدر أحمله أسميته قلمـــــي
أطعمتني الود مطوياً على شمم
حتى أتيتك ودّاً رائع الشمــــــــــــمِ
لو أبطأت قدمايَ اليوم عن عدن ٍ
تبرأتْ قدمٌ في الدرب من قــــــــدمِ
مرّت سحائب لا تُرجى رواعدها
وجازت الأفقَ بالأرزاء والظلــــــمِ
والنســر يهبــط للـوادي فينكــرهُ
وبيتُـهُ أبـداً فــي شـــاهق القمـــــــمِ
يـــادارة الفكـر ما الأيام حاشـدةً
أقسى علـى العُرب مـن مستعمرٍ نهـــــِمِ
عصت على فمه أرضٌ موحدةٌ
لكنــه ابتلـــع الأقطـــار باللقــــــــمِ
ان أبطأت وحدة الترب الطهور بها
فلــم تفُتْ منــذ دهــرٍ وحــدةُ الألــمِ
ما أهون البعد في الأجساد لو جمعتْ
أرواحــــها بمصيــرٍ فيــه ملتحـــــمِ
هنــا رأيتُ انفــراد البـذل يخبــرني
أنّــــى يعـــود بمجـدٍ منـه مزدحـــمِ
هذي الدماء التي سالت سناً ومنىً
تألقتْ نجمــةً حمــراءَ فـي العلــــمِ
يا أخت بغدادَ ما بغداد غير هوىً
علـى العروبـة فـي التأريـخ منفطـمِ
كانت دماً دون عز العُرب قاطبةً
يهمي وهاهي حبٌ في العيون همـي
ان عزَّ بعد انتصار السيف مقتحمٌ
فهـاكِ قلبـي في الأضـلاع فاقتحمـي
0 تعليقات