كرم نعمة
آباء الإنترنت كانوا يهدفون في جوهر تأسيسها إلى التعامل مع مصادر المعلومات على قدم المساواة بعيدا عن حراس البوابة التقليديين، لكن بعد عقود من شيوع التجربة الحية التي تقدمها الشبكة، سمحت بإضعاف وسائل الإعلام.
الأخبار السيئة.. هل هي أخبار جيّدة؟
تضع الكاتبة ريانون لوسي كوسليت، الحل بين أيدينا بثقة مفرطة وتفاؤل قلّ مثيله لمساعدتنا على الخروج من زنزانة الإنترنت! لإعادة تشكيل علاقتنا مع أنفسنا وبالتالي علاقتنا مع الآخر. لأن مجرد إعادة التحقق من الأخبار السامة التي نتفاعل معها بشكل مهول يوميا على مواقع التواصل وصفحات الإنترنت هو أمر مروّع وقهري.
تبسّط كوسليت الأمر علينا بالعودة إلى أنفسنا بشكل نشط، ووضع خط دفاع جذري واستمرار التواصل الدائم مع الذات وليس مع غوغل، وترى في ذلك حلاّ فعالا للخروج من زنزانة الإنترنت، وإعادة الاتصال بالعالم كما هو وليس عبر الشاشات الصغيرة المؤذية.
قد يبدو كلام هذه الكاتبة، التي أصدرت روايتها الأولى عام 2018 “طغيان الأشياء المفقودة” وقبلها نشرت كتابا مشتركا عن عدم التسامح في وسائل الإعلام، مثيرا للتهكم أكثر من اللامبالاة، لكننا بمجرد إعادة كتابة مقطع عرضي مقرب لأنفسنا في عصر الهواتف الذكية نكتشف أننا نعيش مع وسائل الإعلام الرقمية نوعا من الشرود الواعي! وذلك في حقيقة الأمر أخطر بكثير من القيام بأفعال غير واعية.
نسافر عبر الزمن في تصفّحنا المستمر لأجهزتنا الرقمية ومتابعة الأخبار السامة والاهتمام بتداعياتها أكثر من الأخبار السعيدة لنسقط في المقولة التاريخية التي تُجمع عليها كل المدارس الإعلامية “الأخبار السيئة هي أخبار جيّدة”.
ماذا يحصل في يوميات الناس حاليا؟ إننا جميعا نتشابه إلى حد كبير في العيش داخل زنزانة الإنترنت، وتسير الأمور على هذا النحو: نفتح عيوننا صباحا ونتوجه إلى هواتفنا قبل كل شيء “أنا أقوم بأسوأ من ذلك، استيقظ وأضغط مباشرة على زر الكمبيوتر لتشغيله”! في يوم ما قبل عقود كنا نضغط على زر الراديو لتشغيله، فحتى تلك المسرّة افتقدناها.
نبحث عن شيء ما لسنا متأكدين بالضبط ما هو نبحث عن شيء ما لسنا متأكدين بالضبط ما هو
نلاحق الأخبار على وسائل التواصل والمواقع الإلكترونية بشكل دائم، نتحقق من آخر التحديثات، نشغل أذهاننا بالمروع منها، نلتفت سريعا للأخبار العاجلة، فيما يبقى جزء من عقولنا في صفحات لم نكمل قراءتها! تومض الكلمات والصور في ثوان، نشارك، نحدّث صفحاتنا الشخصية، نحذف، نردّ، أليس في ذلك شرود واع، لكنه قاتل!
وعندما نحاول أن نخرج من زنزانة أخبار الإنترنت مساء، نعيد السؤال على أنفسنا إلى أين نذهب بحق الجحيم! ولا نجد أسهل من إيجاد الإجابة في العودة ثانية إلى أجهزتنا الإخبارية، لأنها معلم صبور لا يملّ ويستجيب سريعا لكل أسئلتنا حتى الساذج منها! ذلك خيط رقمي يسحبنا يوميا حتى يتلاشى ضوء النهار، لأننا لا نشعر بالراحة العقلية التي يعيشها أولئك الذين مازالوا يقيمون خارج الإنترنت “كم يوجد منهم في عالم اليوم”!
علينا أن نفهم هنا أن من يدمن على قراء الصحيفة الورقية لا يمكن أن يقترب منه أي من أمراض إدمان مطالعة نفس الصحيفة على الإنترنت.
تفسّر ريانون لوسي كوسليت ذلك بإجبار أنفسنا على تمرير ما يمر علينا في سجن الإنترنت، لأننا نبحث عن شيء ما لسنا متأكدين بالضبط ما هو “الطمأنينة، الحقيقة، التحقق، الإجابات، العلاج، المعرفة، كراهية الآخر، التشفي، الحب..” وفي كل ذلك نبقى في وضع القتال الجاهز، وهو نوع من اليقظة المفرطة تفضي إلى دوامة من القلق، لأننا نضيف أنواعا جديدة من القلق في بحثنا المستمر عن تخفيف القلق نفسه. أو وفق تعبير عالمة الوراثة البريطانية جوليا بيل “نحن مسجونون بسبب نشاط الدماغ البدائي التفاعلي”.
كذلك نعيش جميعا في انتظار ردّ على كل ما نكتبه في منصاتنا الرقمية، يرافقه نوع جديد من القلق والترقّب وتهيؤ للدفاع عن النفس ومحاسبة الآخر على ما نشره، أو التعبير عن كراهيتنا له، لهذا أصبحت وظائفنا التنفيذية مرتبكة بشكل دائم، بينما أجهزتنا الذكية تفاقم هذا الارتباك ونحن نخدع أنفسنا بنوع من الاطمئنان المعلوماتي.
يظهر لنا غوغل كمنقذ دائم في أوقات عدم اليقين، وهي أوقات تضاعفت مئات المرات في العصر الرقمي، بسبب عزلة الوعي التي يعيشها الملايين مع أجهزتهم وحرمانهم من المعرفة والقراءة الطبيعية التي بنت الوعي الإنساني على مر التاريخ. وذلك سبب قائم ومتواصل على انتشار نظرية المؤامرة والأخبار المزيّفة في عصر “ما بعد الحقيقة” الذي لطالما حذر الباحثون من تأثيره على الصحة العقلية.
يجادل عالم النفس في جامعة هارفارد ستيفن بينكر بأن ميل القراء إلى إيلاء المزيد من الاهتمام للأخبار السلبية، يمكن أن يشوّه نظرتنا إلى العالم. ويطالب بتغيير في المنظور. مع أن متابعة الأخبار السيئة مثل سقوط الطائرات وأخبار الكوارث الطبيعية والمناخية ضروري لأخذ الحذر، لكن تشجيع وسائل الإعلام على فتح المزيد من المنافذ التي تقدم قصصا إخبارية إيجابية وبناءة، ضروري جدا لارتفاع منسوب الأمل.
بينما الكمّ الهائل من الأكاذيب والقصص الهادفة لاختراق العقول والتأثير عليها تعمل على صناعة الفوضى والارتباك وتصيب الناس بالإعياء والتشكيك والسخرية من الحكومات حتى في أرقى الأنظمة الديمقراطية. الأكاذيب في العصر الرقمي لا تهدف إلى كسب أي معركة أفكار. بل منع خوض المعركة الفعلية عن طريق جعلنا نستسلم ببساطة.
فقد وجد بحث جديد أصدره فريق من الباحثين في جامعة هارفارد، أن حملات التضليل الفعالة غالبا ما تكون “عملية تقودها النخبة وتقودها وسائل الإعلام”.
كان آباء الإنترنت يهدفون في جوهر تأسيسها إلى التعامل مع مصادر المعلومات على قدم المساواة بعيدا عن حراس البوابة التقليديين والحكومات، لكن بعد عقود من شيوع التجربة الحية التي تقدمها الشبكة للبشرية، سمحت بإضعاف وسائل الإعلام التقليدية ومنحت عددا قليلا من إمبراطوريات التكنولوجيا الأميركية الحق بأن تصبح حارس البوابة على الحقيقة التي تخدم مصالحها واعتماد نموذج عمل يجعل الإنسان منصاعا لها وفق خوارزميات وأنظمة تتحكم بمزاجه ورغباته.
0 تعليقات