المجموعة القصصية (رقائق من المعارف) القصة الخامسة

مشاهدات

  





أستاذة مي رضوان السلوم كاتبة سورية
د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث وروائي مصري

سر الخلود

 
(عمر)  غلام يافع فضولي يحب المعرفة ويعشق القصص وفي إحدى المرات ذهب لمكتبة والده (محمد) العامرة بالكتب وإذا بالجد ( فتحي) وهو يتريض صباحا وبصحبته كلبه الصغير  يسمع صوت سقوط رف كامل من الكتب وأنين همس ووجع صادر من مكتبة ولده فعجب  الجد فليس من عادة ولده الاستيقاظ في هذه الساعة المبكرة والمكوث بالمكتبة فدلف إلى داخل المكتبة ليجد  (عمر )ملقى على الأرض والكتب مبعثرة وأثار الفوضى تشيع  بالمكان كما جاءت الأم (مي) مسرعة وقد بدت علامات الغضب على محياها وراحت تعنف ابنها عمر قائلة:
أخبرني أيها المشاغب ماذا تفعل بمكتب والدك سوف يغضب منك عندما يعود؟! ...رد عمر خائفا : احتاج لمعرفة صدق قصة رواها لي صديقي (حجاج) بالمدرسة يا أمي فقد  روى لي أن رجلا من أولياء الله ذكره الله لايموت أبدا وأنا أريد أن أحيا مثله ..ضحك الجد وقال:  تعال ياعمر أروي لك قصته  .
فرح عمر وغادر مع جده المكتبة فيما بقيت الأم   ترتب ما نشر من فوضى وهي ترمقهما بمحبة وسرور .
كان  عمر يسرع الخطى  بجوار جده العجوز وهو يحمل شوق الفضول بين جوانحه فلقد صار على بعد خطوات قليلة من معرفة قصة الولي الخارق .
بدأ الجد حديثه قائلا : ما قصده زميلك يا بني هو سيدنا الخضر وقد جاء   ذكره في جميع الديانات السماوية والحضارات الإنسانية وإن اختلفت المسميات والأدوار أيضا   فمن الرواة من قال أنه نبي ومنهم من زعم أنه ولي من أولياء الله في الأرض ومنهم من قال أنه يملك السر الإلهي لإنقاذ الناس ومنهم من قال أنه حارس البحر .
قال عمر : من والده ومتى ولد ياجدي ؟
أجاب الجد : وفي هذا اختلاف أيضا بعضهم ذهب أنه من صلب آدم ، وآخرون قالوا أنه قابيل ابن آدم عليه السلام وآخرون قالوا أنه سيدنا اليسع نبي الله عليه السلام ومنهم من قال أنه من سبط هارون وقيل أنه ابن بنت فرعون وقيل ابن فرعون من صلبه وقيل أنه الرجل الذي ذكره الله تعالى في سورة البقرة بأن الله أماته مئة عام ثم أحياه وكثيرا من الأقاويل الأخرى والعلم في حقيقتها عند الله  .
قال عمر : ياللعجب وهل اسمه هو الخضر حقا ؟
رد الجد : قيل أنه اسمه الخضر لإشراق وجهه وقيل أنه مسمى لحق به من فرط كراماته ذلك أنه إذا ما جلس على فروة بيضاء وهي الأرض  إلا  وصارت خضراء.
قال عمر : لقد حدثني صديقي يا جدي أن له قصة  مع سيدنا موسى  لكن انقضى اليوم الدراسي دون أن يسمعني إياها..فهل ممكن أن تقصها علي؟
رد الجد :على الرحب والسعة يابني  ففي زمن مضى وقف سيدنا موسى عليه السلام خطيبا  بالناس فسألوه من أعلم الناس؟! رد  سيدنا موسى واثقا: أنا أعلم الناس فعتب عليه الله وأوحى إليه أن هناك رجلا في مجمع البحرين أعلم منه فسأل موسى الله -وقد كان كليمه - عن كيفية ملاقاة الخضر  فأوحى إليه أن يأخذ معه حوتا عند مجمع البحرين وحيث يفقد الحوت يكون الخضر هناك .
انطلق سيدنا موسى عليه السلام وبصحبته فتاه (يوشع بن نون)  إلى مجمع البحرين يحملان الحوت فأدركهما سبات نوم عميق وإذا بالحوت يضطرب ويعود سابحا حيا في البحر وقد رآه يوشع  ولكنه نسي إخبار  موسى عليه السلام عن الأمر حتى ابتعدا عن المكان فترة  فطفقا يبحثان عنه متبعين الأثر حتى عادا مرة أخرى إلى الصخرة التي ناما عليها فإذا برجل مسجى بثوب فقال سيدنا موسى معرفا نفسه: أنا موسى. هنا رد الرجل  : موسى بني اسرائيل قال موسى وقد أدرك أنه أمام الخضر:  نعم وجئت إليك لتعلمني مما علمت رشدا .أجابه الخضر : لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على أمور أنا أعرف غيبها والغاية منها وقد أطلعني الله عليها وأنت لا تعلم ولم تحط بها خبرا  لكن موسى وعده بأن يصحبه صابرا دون أن يلاحقه بكثرة السؤال و بدأ سيدنا موسى رحلته مع الخضر ومشيا حتى الشاطئ  فإذا بسفينة مارة فأخذوا الخضر وكانوا يعرفونه وبصحبته موسى ورفضوا تقاضي أي أجر منهما وبينما هما على السفينه فوجىء سيدنا موسى بالخضر يقتلع أحد ألواح السفينة مخربا إياها  فتعجب لفعله فقد أظهر أصحاب السفينة من الكرم والإحسان والحفاوة ما يتنافى مع ردة فعل الخضر في مقابل هذا الإحسان  وبادر موسى لسؤاله عن السبب فقال الخضر: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ..
قال عمر : غريب حقا فعله يا جدي لما يخرب السفينة  ؟
ضحك الجد  قائلا: هذا طبع الإنسان عجول بالفطرة يا عمر...  تمهل يا بني فالخضر رجل صالح وبالتأكيد صنيعه لن يكون إلا  لمغزى ذات شأن وحكمة .
ضحك عمر وقال: أجدني لن أستطيع صبرا أنا أيضا.
رد الجد وقال: هكذا  نظرة الإنسان قاصرة ليس لها سوى الأسباب الظاهرة أما لطف الله وآياته الباطنة وتدبيره المحكم فهي أمور غيبية لايراها الجميع إلا من يختصه الله بعلمه كما علم الخضر .
قال عمر : وماذا حدث بعد ذلك ؟!
طلب سيدنا موسى من الخضر أن يسامحه على عدم صبره على وعد منه بعدم السؤال مرة أخرى
وعندما نزلا من السفينة وبينما هما يمشيان رأى الخضر غلاما يلعب فإذا به يقترب منه ويقتله فعاد موسى لدهشته مما يجري وقتل الخضر لنفس زكية دون جريرة فكرر عليه الخضر قوله : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا  .فكرر موسى اعتذاره مرة أخرى واعدا الخضر أن تكون المرة الأخيرة  ولكن نفسه ظلت تواقة لمعرفة السر فيما يجري وقد  أصابت نفسه مشاعر متباينة من  الفضول والغضب والاستغراب ولكنه يجب أن يتحلى بالصبر حتى تنجلي أمامه حقائق الأمور ...استمر الرجلان  بالرحلة حتى وصلا إلى قرية فطلب الخضر من أهلها طعاما وماء فرفضوا أن يعطوهما شيئا فجلسا إلى جدار مائل على وشك التداعي والانهيار  فشمر  الخضر عن ساعديه وأعاد بنيانه
قال عمر : غريب أمر الخضر أتلف السفينة لمن اسدوا إليه معروفا بينما يقيم بنيان من رفضوا مساعدته ..
قال الجد : ألم أقل لك مهلا يا بني ..هذا أثار شعور موسى فنسي وعده وبادر لسؤال الخضر : لما أقمته وهم لم يعطونا أجرا ؟

قال عمر : وماذا كانت ردة فعل الخضر يا جدي ؟
قال الجد : لقد أماط الخضر اللثام عن حقيقة المشاهد التي أثارت استغراب موسى واندهاشه وقد جاء ذكر ذلك في  سورة الكهف في قوله تعالى : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ *كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ).
هل فهمت  يا بني العبرة  فالإنسان الذي لايملك العلم بالشيء قد يستغرب وقوع بعض  الأذى الظاهر ببعض الناس بينما في  باطنه الرحمة وفي حقيقته لطف الله ومحبته لعباده وهذا ما أصاب سيدنا موسى وشرحه له الخضر.
عمر :  رائع حقا ولكن لما لا يموت سيدنا الخضر  أبدا ؟
الجد : أعطاه الله العلم والقوة والخلود ليساعد الناس يابني  .
عمر : أتمنى ياجدي أن أكون مثل الخضر لا أموت أبدا وقويا اساعد الناس .
جاء محمد والد عمر ورأى ولده يلعب ويهتف: أنا مثل الخضر قويا لا أموت أبدا.. فاستغرب كلامه وهو كعادته يحب لابنه معرفة الحقائق العلمية المثبتة فدعاه لمكتبته ..
لبى عمر نداء أبيه وجلسا بالمكتبة يتحادثان فقال محمد لولده عمر : لا أحد يا بني يمكنه العيش أبدا هذا محال.
قال عمر : ولكن الخضر باق يا أبي كما أخبرني جدي وصديقي.
قال الأب: باق بعمله وأثره بين الناس أما جسده فكلا ...بأعمالنا العظيمة يا بني نستطيع أن نحيا دائما يا بني في مجتمعاتنا وأوطاننا وفي أوساط محبينا.
حزن عمر فقال الأب : هل تدري أننا بخطوات صحية بسيطة نستطيع أن نحيا طويلا وليس أبدا يا عمر ؟!
قال عمر : كيف يا أبي ؟!
قال الأب : هذا هو دور العلم فلو لاحظت مثلا نصائح الأطباء لجدك (فتحي) في الإلتزام بالحمية الغذائية منخفضة البروتين والحد من السعرات الحرارية والتقليل من تناول اللحوم خاصة المصنعة والاكثار في المقابل من الأطعمة النباتية واتباع الصيام المتقطع وهو الأكل المقيد بالوقت والتوقف عن التدخين...كلها أمور تصب في تعزيز الصحة وزيادة العمر
قال عمر وقد تهلل وجهه لمعلومات والده العلمية : وماذا أيضا يا أبي؟!
قال الأب: ألا تشاهد جدك حفظه الله يتناول الجوز باعتدال فهو مصدر للبروتين والألياف ومضادات الأكسدة  كما  يمارس رياضة المشي بانتظام بصحبة كلبه بعيدا عن التوتر والقلق فمرافقة الحيوانات الأليفة تزيد من النشاط والحركة وتجعل من التريض سلوكا يوميا وتشعر المرء بالسعادة مما يفيد من صحة الدماغ وطول العمر فالبالغين من العمر ستون عاما فأكثر من المفيد أن يمشون من 6000  إلى 8000 خطوة يوميا أما من تقل أعمارهم عن الستين فمن المفيد أن تكون خطواتهم اليومية ما بين 8000 إلى 10000 خطوة .
حتى بعض الأدوية التي يستعملها جدك مثل دواء (ريلمينيدين) لعلاج ضغط الدم قرأت عنه بحثا مؤخرا أنه يسهم في إبطاء الشيخوخة عند الديدان بآلية وفائدة تشبه تلك التي يمنحها النظام الغذائي منخفض السعرات الحرارية ..
أطرق عمر صامتا ثم صاح : لقد تذكرت شيئا يا أبي لقد حدثنا مدرس العلوم أن سلحفاة سيشل العملاقة المسماة (جوناثان ) هي أقدم حيوان بري وقد تخطت المائة والتسعين عاما فكيف هذا يا والدي ؟!
سر الأب من ذكاء عمر وقدرته على الربط بين ما يسمعه من أحاديث متفرقة ومقارنتها ثم قال: إنها يا عمر حيوانات تتمتع بحماية وهبها لها الله فالسلاحف عبر درقتها  الصلبة والتي تؤمن لها عيش هادىء بمفازاة عن الافتراس علاوة على تركيبتها الجينية والتي  تعمل على صيانة التيلومير الذي من المفترض أن يتناقص مع العمر لكن هذا لا يحدث إلا ببطء مع السلاحف علاوة على أن الاستقلاب بطىء لدى السلاحف وهي العملية التي يتم فيها تحويل الطعام والشراب إلى طاقة ويساعد على هذا الاستقلاب البطىء قدرة السلاحف على العيش في المناطق الباردة ..
أعلم أنها أمور كبيرة عليك يا ولدي حتى تفهمها وأنت لا زلت صغيرا ولكني قصدت منها أن أفتح مداركك على احترام العلم وتحكميه في كل ما تسمع وترى وتفكر وواثق أنه مع الوقت ومع اتساع معارفك سيكون بمشيئة الله..




إرسال تعليق

0 تعليقات