قضاة تميزوا خارج سوح القضاء

مشاهدات

 




محمد عبد المحسن

المألوف عن القضاة في العراق أنهم يوجهون جهدهم واهتمامهم نحو عملهم القضائي ولا يخرجون عنه إلا فيما ندر ،لأسباب مختلفة، لكن هناك اسثناءات قليلة لقضاة أبدعوا وتميزوا في مجالات أخرى إلى جانب القضاء . وسنحاول هنا الإحاطة بما تميز به بعضهم .

    
(١)
الروائي القاضي فؤاد التكرلي
( ١٩٢٧ - ٢٠٠٨)

ولد القاضي فؤاد التكرلي في (راس الساقية) إحدى محلات باب الشيخ ببغداد في ٢٢ آب ١٩٢٧ في عائلة يرجع نسبها إلى الشيخ الصوفي عبد القادر الجيلاني ودرس في مدارس بغداد .
تخرج في كلية الحقوق في العام ١٩٤٩ وعمل كاتب تحقيق ثم محامياً فقاضياً .
في القضاء عمل في محاكم، منها ، عمله قاضياً لمحكمة بداءة بغداد ( صار اسمها محكمة بداءة الرصافة فيما بعد ) في العام ١٩٦٤ ثم عضواً
في محكمة جزاء بغداد الكبرى ( صار اسمها محكمة جنايات الرصافة فيما بعد ).
سافر إلى فرنسا وقضى فيها مدة من الزمن، وعاد ليعين مستشاراً بوزارة العدل.
تقاعد في العام ١٩٨٣ قبل بلوغه سن التقاعد .
عاش في تونس منذ العام ١٩٩٠ ، وهناك ، بعد وفاة زوجته، تزوج من الروائية التونسية رشيدة تركي .
عمل في سفارة العراق في تونس بعد حرب الخليج الثانية .
منحته حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة في العام ٢٠٠٠ جائزة العويس للروايات العربية وآدابها .
توفي في ١١ شباط ٢٠٠٨ .
كانت بداية نشاطه الأدبي بنشر أولى قصصه القصيرة في مجلة الأديب اللبنانية في العام ١٩٥١ ، ثم أخذ ينشر قصصه في عدة صحف ومجلات .
أعماله الروائية :
الوجه الآخر (١٩٦٠ ) ، الرجع البعيد (١٩٨٠ ) ، الصخرة ( ١٩٨٦ ) ، خاتم الرمل ( ١٩٩٥ ) ، المسرات والأوجاع ( ١٩٩٨ ) ، بصقة في وجه الحياة ( ٢٠٠٠ ) ، حديث الأشجار (٢٠٠٧ ) ، اللاسؤال واللاجواب ( ٢٠٠٧ ).
مجموعاته القصصية :
موعد النار ( ١٩٩١ ) ، خزين اللامرئيات ( ٢٠٠٤ ) .
من طريف ما أذكر أن الشاعر الراحل فوزي كريم أجرى حواراً أدبياً في الثمانينيات مع الراحل التكرلي نشر في مجلة ألف باء ، وجرى الحوار في مكتبه في المحكمة وبدأ في المساء وانتهى عند الفجر حين كان التكرلي في تلك الليلة قاضي التحقيق الخافر في بغداد ، وكان الحوار يجري وسط ما كان يعرض عليه من أوراق تحقيقية لما ارتُكب في ذلك اليوم من جرائم  وما وقع من حوادث ، فكان يقرر توقيف هذا المتهم وإخلاء سبيل ذاك بكفالة،  والأمر بالقبض على ثالث ، والتحري في هذا المكان أو ذاك ، ثم يعود إلى موضوع الحوار ، ويومها كتب فوزي كريم متعجباً من قدرة قاضِ تشغله القضايا ويشغله القانون على مواصلة الإنتاج الأدبي .
   رحمه الله تعالى .
لنا وقفة أخرى مع قاضٍ آخر تميز في ميدان آخر موازٍ للقضاء .

(٢)   
القاضي علاء الدين النواب
     قاهر المانش
( ١٩٢٧ - ٢٠٢١ )

ولد المرحوم علاء الدين النواب في العام ١٩٢٧ في محلة الشيخ بشار في كرخ بغداد ، وهو ينتمي إلى أسرة النواب المعروفة التي ينتمي إليها أيضاً الشاعر الكبير مظفر النواب .
عرف بولعه المبكر بالسباحة لقرب الدار التي نشأ فيها من شاطئ دجلة وكان سباحاً بالفطرة حتى أُطلق عليه في صغره لقب ( سمكة دجلة ) ، وشارك في العام ١٩٣٧ وهو في عمر عشر سنوات في سباق بنهر دجلة وأحرز فيه المركز الثاني .
بعد ذلك تحول ميله إلى سباحة المسافات الطويلة ، فشارك في العام ١٩٥٧ في سباق بلبنان لقطع مسافة (٥٠) كيلو متراً بين صيدا وبيروت حيث أحرز المركز الثاني في السباق بعد السباح المصري الشهير عبد اللطيف أبو هيف ، ثم بدأت مشاركاته في سباق كابري - نابولي بإيطاليا ، وكانت أفضل نتائجه فيه في العام ١٩٥٧ حين أحرز المركز الأول بين (٣١) سباحاً مثّلوا (٩) دول قاطعاً مسافة السباق البالغة (٣٣) كيلومتراً في (١٠) ساعات و (١٦) دقيقة .
يظل الإنجاز الأكبر للنواب عبوره بحر المانش سباحةً بين الساحلين الفرنسي والبريطاني إنطلاقاً من مدينة (كاليه) الفرنسية في ٢٦ آب من العام ١٩٥٩ حين حصل على المركز الأول للهواة بين ٤٣ سباحاً يمثلون (٢٢) دولة، لم يكمل السباق منهم سوى ستة، وقطع السباق في ٢٣ ساعة ورافقه خلاله المرحوم عزيز الحجية على ظهر زورق .
إعتزل النواب الرياضة مبكراً ليتفرغ لعمله موظفاً في المحاكم ثم قاضياً ، وكان من أهم محطات عمله القضائي عمله قاضياً لمحكمة تحقيق الكرخ ، وقاضياً للأحداث وعضواً في محكمة الإستئناف .
شهد له من عرفه بالتواضع وحسن المعشر وحب الناس .
توفي رحمه الله في نيسان من العام ٢٠٢١.

(٣)
سالم عبيد النعمان
 السياسي القاضي

ولد المرحوم الأستاذ سالم عبيد النعمان في العام ١٩٢٣ في قضاء عنة بمحافظة الأنبار .
تخرج في كلية الحقوق في العام ١٩٤٥ وعمل في المحاماة في بغداد وعنة .
خلال دراسته في الكلية اتصل بزملاء من حملة الأفكار اليسارية فزيّنوا له الإنتماء إلى الحزب الشيوعي فانتمى إليه وهو في الصف الثاني من الكلية، وانغمس في نشاط الحزب في مرحلة غضّت السلطة فيها النظر عن تحركات الشيوعيين بعد انضمام الإتحاد السوفيتي إلى جبهة الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية .
تقدم ومجموعة بطلب إجازة حزب أسموه ( حزب التحرر الوطني ) وهو في حقيقته واجهة للحزب الشيوعي ويتستر تحت واجهة مكافحة الصهيونية، فلم يوافق سعد صالح - الذي كان وزير الداخلية - على إجازة هذا الحزب الذي كان سالم عبيد سكرتيره .
شارك في تظاهرات وقاد تظاهرات احتجاج على مواقف الحكم الملكي المتعارضة مع التطلعات الوطنية .
عمل خلال مسيرته القضائية في محاكم عدة ثم أصبح عضواً في محكمة التمييز .
بعد تقاعده رفض العودة المؤقتة للعمل في التسعينيات حين اضطرت وزارة العدل إلى الإستعانة بالقضاة المتقاعدين لسد حاجة القضاء .
رفض كذلك عدة عروض للمشاركة في العملية السياسية بعد العام ٢٠٠٣ .
كان واسع الإطلاع على المذاهب الفقهية الإسلامية ، ويشهد على ذلك حديثه مع أحد مراجع الحوزة الدينية في النجف حين كان قاضياً لمحكمة بداءة الحلة وذهب لزيارة النجف والتقى هناك بالمرجع حيث بادره الأخير بسؤال : كيف تسوّغون لأنفسكم مصادرة أموال الناس والإستيلاء غير المشروع على أراضيهم بغير مسوّغ شرعي ( يقصد إصدار قانون الإصلاح الزراعي )، فأجابه بأن هذا ليس مصادرةً ولا استيلاءً بل إعادة أموال وأراضٍ مغصوبة إلى أصحابها الشرعيين لأن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فتح أرض السواد في العراق حظر على الفاتحين أن يتملكوا شبراً واحداً وقال : تترك الأرض بيد أصحابها ويفرض عليهم الخراج وتبقى رقبة الأرض ملكاً لبيت مال المسلمين، ولكن بعد أن ضعف الوازع الديني عند خلفاء بني العباس أخذوا يتألّفون الأشخاص ويمنحونهم ما لا يملكون، وفاقد الشئ لا يعطيه، ثم جاء العهد العثماني فزاد الطين بلّة وأخذ يُقطع الإقطاعيات الكبيرة لشيوخ الجنوب والكوخات وأعوان الشمال، وحين تأسست الدولة العراقية سارت في نفس هذا المنحى الخاطئ بإصدار قانون تسوية حقوق الأراضي رقم (٥٠) لسنة ١٩٣٢ وعززته بقانون منح اللزمة رقم (٥١) لسنة ١٩٣٢  وبعدها بقانون حقوق الزراع ، فرسخ أقدام الإقطاعيين الذين صاروا يملكون الأرض وما عليها من بشر وبقر وشجر ، وتصاعد نفوذهم وأصبحوا دولة داخل الدولة حتى صارت لهم سجونهم ، ولهذا أرادت ثورة ١٩٥٨ إزالة المظالم وتحديد حد أعلى للملكية الزراعية، وسبق أن أكد هذا الرأي الشيخ أبو جعفر الطوسي شيخ الطائفة ومؤسس أول حوزة علمية في النجف . وهنا سكت المرجع ولم يجب .
كان للقاضي الراحل اهتمام بالثقافة لم ينقطع ، وكان له مجلس ثقافي كل يوم أربعاء في داره بحي العدل .
له كتابان أرّخ في أحدهما مسيرة الحزب الشيوعي بقيادة فهد ، وفي الثاني مسيرة الحركة الوطنية خلال المرحلة ما بين بداية القرن العشرين والعام ١٩٥٨ .
إستمر في العمل القضائي منذ الخمسينيات حتى إحالته إلى التقاعد في العام ١٩٨٢ .
توفي في أحد مستشفيات أربيل في ٢٢ شباط ٢٠١٢ .
يرحمه الله تعالى .

إرسال تعليق

0 تعليقات