[ مَضَارِبُ الصَّمتِ ]

مشاهدات

 




علي الجنابي

أَلَا وَإِنَّ لِلصمتِ -ياصاحُ- مَضَارِبَ ثلاثاً لاغير، وسأهديكَ الى سُبُلِها. ولِتهنأ نفسُكَ إن إستَطعَمَتها مُتَنَسِكَةً بِوَرَعِ الصمتِ وتَبَصُرِهِ، ولتشنأ نفسُكَ إن إستَثقَلَتها مُتَمَسِكةً بِفَزَعِ الصدرِ وتَحَسُرِهِ! أَلَا وَإِنَّ زِيارة الصمتِ فَرضُ عَينٍ، فَمَن حَلَّ بِدياره وَسَاحَ، فلا بَواحَ هناكَ ولا نَواحَ، فذلِك في مَضاربِه هو إشراكٌ وإلحادٌ وزَندَقَة. وأمّا مَن أهلَّ بِه واستَراحَ، فذلِك عندهُمُ هو إدرَاكٌ وإنشادٌ ورَقرَقَةٌ.
 أَلَا وَإِنَّ مَضارِبَهم هنالك تُكَرِّمُ مَنِ إستَلطَفَها وإستعطفَ الصَّباحَ باحة، وإستَهدفَ السَّماحَ واحة. ألَا وَإِنَّها تُصَرِّمُ مَن إستَحَبَّ النَّواحَ راحةً، وإستَتَبَّ الأتراحَ ساحةً.
وَلا ضيرَ - يَا ذَا حِجرٍ- إن زُرتَ المضاربَ أَن تَمُرَّ على أيِّ بَطنٍ مِن بُطُونِ قَبائلِهِ وتَقِرُّ، فلا فَضلَ لِبَطنٍ عندهُمُ على بَطنٍ هُنالِكَا ولا منَّةَ تدرّ . وَإليكَ توصيفٌ عَن بطونِ قبائل الصمتِ الثلاث..
"نفحُ شَاطئٍ، وحيثُ لا سقوفَ ولا رفوف".
 "سفحُ جَبلٍ، وحيثُ لا كهوفَ ولا عصوف".
 " لفحُ صحارى، وحيثُ لا ضيوفَ ولا دفوفَ)، وتِلكَ -يا ذا عزّ- هي بُطونُ قبائِلِ الصَّمتِ المحفوف. فأمّا الشَاطئُ فبَيرَقُهُ مَوسُومٌ ببَحرٍ، إستَقَلَّ عَن السَّماءِ بِوَداعَةٍ وَبِخَيطِ أفقٍ مِن حَرير. وأما الجَبلُ فبَيرَقُهُ مَرسُومٌ بِنهرٍ، إستَغَلَّ سفحَهُ ببداعةٍ من مجرى وبنَغَمٍ من خَرير. وَأمّا الصحارى فتلكَ بَيرَقُها مَحسُومٌ بظَهَرٍ، إستَحَلَّ مُتَكئاً تحتَ شُجَيرَةِ بقناعةٍ وبزَخَمٍ من توقير.
هنالك في الصمتِ يا صاح..
أفلاكُ الغرورِ تُقصَفُ بِكُثبِ القُبُورِ، وأشواكُ الثبورِ تُعصَفُ بِشُهُبِ الحُبُور. وتكونُ كينونةُ لَمضَاتِ الفكرِ هنالكَ مُسترخيةً، وتهونُ بينونةُ وَمضَاتِ الذِّكرِ هنالكَ مُستَرضِيةً. وهنالكَ...
 حيثُ الدَقائقُ تَقتَلِعُ كُلَّ رَنينٍ لِخَرابٍ، وتَنتَزِعُ كُلَّ أنِينٍ لِسراب. لكنّها -وآسفاهُ - دقائقُ قصيرة بإقتضاب! لَو أنَّها لَبَسَت ثَوباً سَرمَدياً من حجاب! ولا بأسَ، فهي قصيرةٌ لكِنَّها بَصيرةٌ، فكنْ لها وفيّاً، كوفاء متنسِّكٍ عابدِ أوّاب. ولئن جَنَحتَ -يا صاح- شَطرَ مَضاربِ الصمت، فَتجَوّلْ في فَريدِ أملاكِها، وتَسَوّلْ من حميدِ إدراكِها، وَإيّاكَ من عَودةً بَاكِرةً مِن هُناك إلى هاهنا، حيثُ..
كُلٌّ مُعجَبٌ بإستواء شَنَبِهِ والتِواءِ ذَنَبِهِ الملفوف، وقد ظَنَّ أنَّه مَلَكَ الجِهاتَ الأربِع، وبيدهِ وحده الخسوف والكسوف. وحيثُ تَتفاقَمُ أمواجُ الصروف، وتَتَناقمُ أمشاج الحُروفِ، وكُلُّ لقرينهِ ناطحٌ وغيرُ رؤوف، ويحسبُ أنّهُ هو وحده (الفيلسوف)، وأنّهُ وحده هو المُتمَرِّدُ على العُرفِ المألوف، لا لشيءٍ إلّا لأنّهُ عُرفٌ خلوقٍ طيّبٍ مألوف.
فما أصفاهُ من قاصدٍ للصمتِ، إذ هو في رحابهِ يَمرحُ برصانَةٍ وأرتياحٍ وخَبتٍ في فضاءٍ مَهيبٍ، ويسرحُ برزانَةٍ في سَبتٍ في خَلَاَءٍ رَحيِبٍ. وما أوفاهُ من حَادٍ للصمتِ، وإذ هوَ في ذهابهِ يصدحُ بإنشراحٍ، في آفاقها ويَردحُ:
"كلُّ تأنِّفٍ عن قبورٍ قد إنقضى، وكلٌّ تَصَلُفٍ بغرورٍ قد مَضى، وكلُّ تَجَلُفٍ بثبورٍ قد تولّى، وكلُّ تنَصُّتٍ َوكبتٍ قد وَلّى، وكلُّ تَعَنُّتٍ ومَقتٍ قد قلّى".

"نفحُ وأَمَدُ شَاطِئِ البَحرِ، فحيثُ لا سقوفَ ولا رفوف".
 "سفحُ ورَفَدُ الجَبلِ، فحيثُ لا كهوفَ ولا عصوف".
 " لفحُ ورَمَدَ الصحارى، فحيثُ لا ضيوفَ ولا دفوفَ".
تِلكَ هي بُطونُ عشائرِ الصَّمتِ لكلِّ إمرئٍ بها شفوف، وأرحامُها عاقرٌ من النُّطوفِ، فلا تَلِدُ إلّا الصَّمت الرؤوف، بيدَ أنَّهُ صمتٌ ناطقٌ وعطوف، فرَوضُ الصَّفوِ فيهِ دافقٌ برقائِقِهِ ومكفوف، وحوضُ اللغوِ فيهِ نافقٌ بِبَوائِقِهِ وموقوف، وأرانيَ بحاجةٍ لسكناتٍ من ذلكَ الصمت، واليه شغوفُ وملهوف. وسأفعلُ رغمَ أنّي ألتحِفُ صمتي كلَّ حينٍ في تقلباتِ الظروف، ومضاربُ صمتي رحَّالةٌ معيَ أينما تَوجَّهَت نبضاتي وتطوف، لكنّ الأمرَ وكما وصَفتُ هنالكَ غير، ودَقائقُ الصمتِ هناكَ غير، وإنّ خافقي لها لَتَوَّاقٌ ومُشتاقٌ ومخطوف.

إرسال تعليق

0 تعليقات