حان وقت الفعل في تونس

مشاهدات


 

الحبيب مباركي

تونس تحتاج إلى فعل حقيقي منسجم مع انتظارات الناس وحاجتهم إلى التغيير. علّة تونس كامنة في آفة الفساد التي تغلغلت في الدولة وهيأت لها الحكومات المتعاقبة الطريق لكي تتغذى وتكبر.

إذا أردت أن تعرف كل شيء عن تونس فقط عليك الاتجاه مباشرة إلى فيسبوك. هناك ستجد كل كبيرة وصغيرة عن هذا البلد. التونسيون مولعون جدا بالإنترنت. التونسي يرضى بنقص احتياجاته الخاصة ولكنه لا يرضى بأن يكون هاتفه الجوال غير مشحون. يتفاعل التونسيون سلبا وإيجابا مع واقع بلادهم عبر هذه المنصة الذكية التي تنتشر فيها الأخبار بسرعة تفوق الخيال. أحيانا يكون انتشار الخبر أسرع حتى من أن تلتقطه وكالات الأنباء.

ويتابع فيسبوك قرابة 7.9 مليون تونسي من مجموع 12 مليونا، أي قرابة 67 في المئة من التونسيين. وللرقم دلالة عميقة على مدى تمسك التونسيين بهذه المنصة التي تتوزع عليها الأخبار بين ما هو إيجابي وما هو سلبي.

مؤخرا طغى نوع من السلبية على ما يتفاعل من أجله التونسيون في بلدهم المثقل بالأزمات. النبض الإيجابي الوحيد كان بإمضاء وزيرة السعادة، أو هكذا يطلق عليها في تونس، أنس جابر، ببلوغها نهائي بطولة أميركا المفتوحة، التي لم يحالفها الحظ في حصدها. ما عدا ذلك تتفق الغالبية على وضعية صعبة تعيشها البلاد.

التركيز منصب على الأسواق، وعلى معيشة التونسي، بدءا بأسعار المواد الاستهلاكية المفقودة في السوق وليس انتهاء بقوارب موت المهاجرين الغارقة ليُكشف كل يوم عن ضحايا جدد بالعشرات وربما بالمئات. لا ندري لماذا تكثف “نشاط الحرقة” (الهجرة غير الشرعية) في تونس الذي ذكرنا بسيناريو 2011 أيام المخاض الثوري.

في الجانب الآخر يموت شاب في وضح النهار برصاص عنصر جمارك في قلب العاصمة. تنقلب الصورة رأسا على عقب، ويسيطر على التونسيين قلق كبير مما آلت إليه البلاد، في وقت زعم فيه الكثيرون أن الصورة الجديدة لتونس كانت بكسب الرهان الذي وضع أركانه الرئيس قيس سعيد بعد 25 يوليو 2021.

العمل الحكومي لا يزال بطيئا. ملفات ساخنة تنتظر الإنجاز، والدولة لم تستوعب انتظارات الشارع المعلقة، بعد أن حسم التونسيون أمرهم وقالوا كلمتهم ولفظوا الأحزاب بمسمياتها المختلفة.

راحة نفسية كبيرة أحسها التونسيون بعد نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد يوم 25 يوليو الماضي وبدت محفزة للجميع من أجل أن تعود لتونس عافيتها. وسرعان ما انقلبت الراحة إلى “مرارة” كبيرة بدأ التونسي يحسها يوميا جراء فقدان الكثير من السلع الاستهلاكية وارتفاع أسعارها التي باتت صادمة للجميع. اللغز الكبير يتمحور حول الاحتكار والاضطراب في مسالك التوزيع.

يعي الكثيرون أن لأزمة أوكرانيا تأثيراتها هي أيضا على العديد من أسواق البلدان العربية. لكن هناك أيضا أزمات مفتعلة وجب على الدولة التنبه لها وتطويقها. المحتكرون وسماسرة الأسواق المتواطئون مع لوبيات الفساد هم الكارثة الحقيقية في تونس. هل عجزت الدولة عن كشف هؤلاء ومن يقف خلفهم في أعلى سلم الدولة، ولماذا لا يقع تعقبهم والكشف عنهم إلى حد الآن؟


مافيا الفساد تداخلت مع السلوك الفوضوي لبعض الدخلاء على مسالك التوزيع والمتحكمين في الأسواق. الاحتكار أيضا كارثة وجب تطويقها، لا الاكتفاء بالتصعيد اللفظي تجاهها. يوميا تكشف وسائل التواصل الاجتماعي عبر صور موثقة عن أطنان من المواد المفقودة في السوق.

حان زمن الفعل الآن في تونس. الشعارات والتنديد والوعد والوعيد كلها مفردات لمعجم واحد لم يعد يؤكل الناس خبزا. حريّ بالرئيس قيس سعيد أن يخرج للناس ويخاطبهم بلغة سلسة تصل إلى مسامعهم وتهدئ من مخاوفهم كي لا يفقدوا الثقة مرة أخرى.

تونس تحتاج إلى فهم دقيق للعلل ومكامن الداء ليقع تشخيصها ومن ثم الشروع في تقديم علاجات ناجعة للعديد من القطاعات لتعود لها عافيتها.

انتظارات العالم، بشقيه المساند والمناهض لمسار 25 يوليو، مركزة على تونس. ماذا بعد هذا التحول الذي عرفته البلاد؟ ماذا قدم الفاعلون السياسيون الجدد من حلول لأزمات الدولة المستعصية؟ لا نحتاج إلى أرقام لكي نكشف الوضع الاقتصادي الحرج الذي تمر به البلاد. لكنّ مؤشرا واحدا ربما يكون كافيا للتدليل على درجة الانحدار الذي باتت تعيشه. التراجع إلى أدنى مستوى للعملة الوطنية (الدينار) لأول مرة في تاريخها قياسا بالدولار.

تونس اليوم تحتاج إلى فعل حقيقي يكون منسجما مع انتظارات الناس وواقعهم الذي يحتم التغيير. علّة تونس كامنة في آفة الفساد التي تغلغلت في الدولة وهيأت لها جل الحكومات المتعاقبة الطريق لكي تتغذى وتكبر. علة الفساد هذه تقف وراءها لوبيات وبارونات توجب البحث في كيفية تحجيم أدوارهم أو على الأقل التقليص من نفوذهم.

هنا تكمن الحلول الحقيقية للاقتصاد والمشاكل الاجتماعية المزمنة ولأزمة السيولة وغيرها من المفردات التي يتداولها التونسيون في ما بينهم دون أن يعوا محركها السلبي الذي يعيش بينهم وربما يتواصلون معه.

تونس لا تحتاج إلى عداوات مع أي كان. الجيران أولا لأن بينها وبينهم روابط تاريخية وتعاملات شتى. العلاقات التونسية – المغربية يجب حمايتها وتطويق أي خلاف بخطاب رسمي يقرب وجهات النظر، وتباحث ودي يعيد تبريد الأجواء مع المملكة التي هي في حاجة إلى تونس كما تونس في حاجة إليها.

فرص النهوض بين يدي الفاعلين السياسيين وأولهم الرئيس سعيد الذي يجب أن ينزع عنه جبة الرجل الأوحد ويعيد للتونسيين تلك الصورة التي بدا عليها أيام الأزمة الصحية عندما كانت الأرواح تزهق دون أن يحرك الفاعلون شيئا.

أزمة صحية خبر العالم أهوالها وتعايش معها، لكن أزمة التونسي اليوم في توفير غذائه.. وإلى أن يكشف فيسبوك عن أخبار سارة، ستحتاج تونس إلى فعل سياسي قوي أكثر من أي وقت مضى.

إرسال تعليق

0 تعليقات