سونيتات الإسماعيل... تكامل البناء العام للقصيدة

مشاهدات




جسد في أبياته العاطفة والخيال وساق الرؤى وناغم مابين المبهم والوصف


سعد الدغمان


يقول الشاعر " مريد البرغوثي" (عندما أرسم صورة شعرية لَها فإن القصيدة تصبح إصغاء للذّات ، و ليست قولاً لِمخاطبتها)، أي صورة شعرية فذة تلك التي عبر عنها ( البرغوثي) بتلك الكلمات القليلة في الكم،والغنية في المعنى،أي لوحة تلك التي رسمها بإدراك منقطع النظير،ليجسدها بألوان براقة ساطعة محببة ، وكأنها المطر.ذلك الذي نحبه في الشعر،حين تكون القصيدة (لوحة) خالدة بكلماتها،دالة بمعناها،مضيئة بألوانها،زاهية بفكرتها، لاتحدها قواعد،ولاتلزمها حدود.

قاسم علي الإسماعيل جاء بتلك الصور التي أحتوت كل ما وصفنا، بل رسم بأبياته لوحات فذة تشع ألواناً زاهية مليئة بالخيال والعاطفة، صارخة بسكونها، وعنيفة بمعاني كلماتها.فأبدع ( سوينيتات) كتب عنها الكثير، وقيل فيها الكثير، ووصفها أكثر من ناقد، وتناولتها أقلام كثر ومن جهات عدة، لكن لكل وجهته ورأيه، ولكل وصفه وتأويله.

والنقد واحد وإن تعددت مدارسه، فهناك من ينتهج التعقيد والمغالاة ، وهناك من يهاجم، ويتصيد ، ومن ينظر بعين الإبداع فيكرس الجمال على بساطته ، ليتسنى للقارئ استجلاء المعنى ببساطة المفردة، وعمق تأثيرها النفسي السلوكي بفهم عميق وصورة أعمق من معناها. بتلك النظرة الفاحصة البسيطة أرى عين النقد للأشياء، قد يستهجن البعض، لكن (اختلاف الرأي لايفسد للود قضية ) كما يقال.

قيل القواعد التي تحدها فنية (السونيتات) قد تذهب باتجاه يحد من قدرة التعبير لدى الشاعر،إلا أني اختلف مع القول (الذي يذهب باتجاه إنها تحد من حريته في التعبير عن ذاته). فكيف يتسنى لشاعر أن يركن لقواعد تحد من حريته في التعبير، سواء عن ذاته أو عن الحالة التي يذهب لتشكيل صورها عبر أبياته.

قاسم علي الإسماعيل، قد يكون أول من كتب هذا الفن الشعري ( السونيتات) في العراق، والذي  خرج  فيه من بوتقة ذلك القالب الجامد الذي يعتبره البعض بأن لاحيدة عنه في السونيتات، إلى فضاء الإبداع الواسع الذي يمثله هذا الفن الرائع من فنون الشعر.


إنها خُلاصةُ إسمك الطرية

تلك التي تجول هنا،في خاطري

بدافع من حبة مطر

أو قطرة وفاء عابثة




من يقرأ للإسماعيل يجد أن تناسق الأبيات، وتكامل البناء العام لشكل القصيدة ( سونيتات) جاءت بتوافق تام مع البناء الموسيقي واللفظي للعمل، ليتفرد الإسماعيل ببراعة متناهية وقدرة عالية على التعبير الذي تحرر من فرضيات القافية وقيودها.

نتاجه الأدبي ينم عن غنى تجربته الشعرية التي ربما تفرد فيها بفنية رائعة حين أنفرد عن نظراءه من الشعراء وذهب ليسجل(السونيتات) كمنجز شعري له دون سواه، قيل أن ( حسب الشيخ جعفر) سبقه فيه، لكن ليس بهذا الصيت الذي حازه الإسماعيل، فأعتبر من رواده في العراق.

نصوص قاسم الإسماعيل ربما تفردت بعدم تضمنيها ( الدهشة) ، أي كانت واقعاً ينبض بفيض من المشاعر والعواطف، التي كرست في نصوصها، بل ركز على المبهم بتناغم الوصف، وهذه الميزة لمستها في سونيتات الإسماعيل التي أخذتني لعوالم بعيدة من الحنين والآلفة التي احتوتها كلماته.قد يؤخذ على غيره السرد ولو كان بدراية ، لكن الإسماعيل جاء بسرديات متكاملة ، متداخلة غنية المعاني، غزيرة العواطف. فانشأ نسقا عاطفيا مكتمل العناصر، ليضفي بإكتماله ذاك اتمام صيرورة الحدث الذي بنى عليه حبكة قصائده.أصاب الإسماعيل من خلال سونيتاته الهدف، فأبدع صوراً شعرية جميلة حملت انطباعا رائعاً لدى القارئ ، وأضافت لمسيرته الشعرية سجلا حافلا بالعطاء الثر.



استقرت ذكراك الطيبة في غدي 

كعالم منسي، من جمرودموع وحجر 

هدوء اسمك هو ضجيج عمري الصامت

وعبيره مثل امتداد يومي الغني فيك 


نقل قاسم الإسماعيل مفرداته التي تتوافق مع مايجول وعقل القارئ، وكأنه يعرف فعلاً مايريد قراءه أن  يجسده لهم في أبياته من كلمات مشحونة بالعاطفة والخيال والرؤى التي قد تختلف سياقاتها ومضامينها، لكنها لاتخرج من أطر العاطفة الصادقة والتامل الحذر، الذي يجر القارئ إلى مصيدة حقيقية يؤطرها  (الهاجس)،فيظن أنه قد أمسك بخيوط المعنى، لكن سرعان ما يتبدد ذلك الهاجس لتنزلق من بين يديه خيوط المفردة وتضيع في وهم التصور العميق، معادلة فذة جسدها الإسماعيل ليغلف المعنى بإطر الدلالات التي احتواها نصه.


ذاكرتي الُمتعَبَة تَزَحف دَومَا نَحوَ نسيان

والاسمُ هو الاسمُ، في تغير الأشياء الثابت

مبتعدة عن الخلاصة السميكة للكلمة

باحثة عن إسم جديد، طليق، لك


طغى المخاطب عند قاسم الإسماعيل في (السونيتات)، فجاء بالإبهام يرافق أبياته ، كما في (إنها خلاصة إسمكِ الطَرية)، فمن تلك التي لإسمها خلاصة طرية، استخدم خطاب التأنيث ليبقى المعنى مبهم عند القارئ، وليشكل فيض من الغموض على صيغة التأنيث التي جاء بها في خطابه. ذلك أن خطاب المبهم يضفي حضوراً طاغياً على القصيدة مهما كانت، وقد استخدم الإسماعيل تلك الصيغة بإتقان ودقة، فالغموض في الوصف يدفع القارئ للإسترسال حتى النهاية كي يصل ربما لما أخفاه الشاعر ضمنياً عله يفصح عن هوية المخاطب في أخر القصيدة.


ومنها تحول إلى الوصف ليعمل بتداخل رائع ما بين توصيف المكان و دقة مفرداته الدالة على ما يجول في خاطرهن، ليمنح نصه بعداً وصفيا رائعا كرسه بتحديد السبب الذي تسلطت من خلاله الفكرة على مخيلة الشاعر.ما زج الإسماعيل بين عالم الواقع والخيال،وجاء بمفردات تحمل صيغ التوصيف الضمني الذي يوحي باستجلاء الحالة وتجسيد وجودها بحكم الدافع، ومن لايسرح بذهنه عند اجواء ماطرة تسترسل لحظاتها لتشكل بلورات فضية تفيض اشتياقاً ومحبة. 

والوصف يكلل عالم السرد بمزيد من البهجة، لكن الإسماعيل يبقى في المبهم الذي بدء به سونيتاته ليصل حتى الصفات (الوفاء) التي جاء بها متداخلة مع غيرها حين أبرز وصفه ( بقطرة وفاء عابثة) ، هذا التداخل كرسه الشاعر كميزة محببة في القصيدة ليضفي على أبياتها رونقاً اعتدناه عند الإسماعيل في معظم قصائده.

ساق التشبيه في خضم ابياته كحالة دالة على المعنى وليرسم صوراً جميلة ميزها بتداخل حسي يتمازج مع مفردات الوصف الحقيقي المعبرعن خيال ما أجازه لأبياته أن تحتويه من معان قد لاتتوافق والحقيقة.  



غير أني في بقايا الصدَفًة الحريريةِ تلك

أُجَردُ إسمكِ من وجودهِ الُمتَكلس.


تزاحم المعاني ميزة طغت على أعمال الإسماعيل، خرج منها بتوهج الذاكرة وثبات المعاني ليمنح نصوصه صفة الاستقرار،وهي حالة صحية شكلت منعطفاً اتجهت من خلالها النصوص بشكل عام نحو التدفق اللفظي المستقر باستقرار عناصر النص واستخدامها بشكل متناغم، نم عن دراية يتقنها الشاعر ليشكل من خلالها تضاداً في المعنى أراد له  أن يكرس صوراً تحمل آلق الذكرى ، ثم ليردف لها متناقضات تحمل اشكالاً تنافي صفة الثبات التي جاء بها في مستقل معظم أبياته.

خُذيني، إبقَي مَعي

إنكِ أَشدُ صَفَاءً من دَمعَةٍ

وشَعرُكِ أرَقُ سَواداً من حُبٍ ضَرير

وبين إنكفاءٍ وعودة، أتَيتُ بكِ  

كرس الإسماعيل التضادات في أبياته مستخدماً إياها للتعبير عن ما أحتوته قصائده من مشاعر، فجاء على ذكر( هدوء، ضجيج، حجر، جمر، دموع، صامت، خذيني، إبقي معي) كدالة على تناقض المعاني التي تشكلها تلك المفردات فيما كتب من سونيتات، والتي بنى عليها الشاعر أبياته لتحمل مقاربات دالة ورائعة لاتخلوا من إبداع في استخدام الضمنية من تراكمات المعاني للوصول إلى حالة الشد التي يريدها الشاعر، وليربط من خلالها القارئ ثم يسحبه ليجبره على اتمام قراءة السونيته، والخوض في تفاصيل السردية التي هي عليها، واستخلاص الصور التي أراد الإسماعيل تجسيدها في متن أبياته بجمالية رائعة.

معي لن يكون لك لحاء غيري

وشجرتك أمنت لطيوري الصديقة

لكن ، عرسة رحيلك النقيةجاءت بلا مراكب أو جنين 

أراد قاسم الإسماعيل أن تكون سونيتاته وصفية حد الاكثار من الوصف، بدافع تثبيت المعنى والذهاب منه لدقة تحديد الصورة، فكانت اعماله مكتملة المعنى فعلاً، مستوفية الأركان التي تعتمدها القصيدة وعناصرها، بعيدة عن الإسهاب والتزويق اللفظي، كما استطاع من خلالها أن يجسد الآلفة التي يبحث عنها القارئ ما بين تصوراته والكلمات. سونيتات الإسماعيل عبارة عن صورة حية ناطقة تنم عن قدرة عالية على التعبير الوصفي المتداخل مع الابهام، والاستخدام الأمثل لذلك التداخل والخروج بنص متكامل وفق النسق الفني المتعارف عليه للسونيتات.

لك من الإصباح، أوله

ولنفسي المبتلاة بك

إطراقة الريح

والشوق الماحد

كم صباحا تشبيهين

وأصابعك تمتد عميقا 

في شعري المبلل بالصمت

والذهول المرتد إليك


إرسال تعليق

0 تعليقات