أوهام الصعود الطبقي

مشاهدات




عمر سعد سلمان 


بدأت بسوق العمل منذ 10 سنوات بالعمل كمدرس رياضيات على حسابي الخاص، ثم انتقلت للعمل بمجال التجارة والاستثمار، وبجانب عملي كنت أقوم بتدوين الملاحظات عن بيئة العمل والمعوقات، وأصبح لدي اهتمام منذ عام 2018 بالخطط الفردية للارتقاء الطبقي والتي تؤثر على سلوك الفرد وطريقة تعاطيه مع الحياة. 

بلا شك كان انتقالي من العمل مدرس رياضيات الى مجال التجارة والاستثمار، بمثابة نقلة نوعية طبقية بين بيئتين مختلفتين تماماً. في الأولى اتعامل يومياً مع الفئات التي تمثل قاع المجتمع الطبقي، اما الثانية كنت اتعامل مع اشخاص ينتمون للطبقة المتوسطة وميسوري الحال. شتان ما بين عالم (الاجر اليومي) وعالم (الراتب الشهري)، فالإجراء اليوميين يبحثون عن لقمة العيش، اما الراتب الشهري فهو عالم التجارة والطموح ووهم القيمة المصطنعة.   

لقد تفتحت عيني بعد انتقالي للعمل بالتجارة على العالم الذي ينشط فيه أبناء الطبقة المتوسطة، حملة الشهادات العليا وأصحاب السير الذاتية ومدمنو كورسات تطوير الذات والتنمية البشرية، الذين يجذبهم التسويق وخدمات ما بعد البيع والبنوك والمكاتب الاستشارية والخدمية. 

في الشارع تجد العمال والكسبة يركون على تأمين الحد الأدنى من المعيشة وليس لديهم أي طموح بالمستقبل القريب ولا حتى البعيد، لكن عندما تصبح الموظف في القطاع العام او الخاص تبدأ بتغذية افكارك حول إمكانية وصولك الى مدير بالدائرة او الى دائرة اعلى من دائرتك الحالية، خصوصاً وأنك بدأت بالحصول على خبرات متراكمة نتيجة العمل والدخول بدورات وكورسات تعليمية، وأنك تملك مستلزمات الوجاهة الاجتماعية: الاناقة، السيارة، العلاقات الاجتماعية الراقية كالتعامل مع أطباء وأساتذة وأصحاب شركات ومدراء. من عالم تحكمه استراتيجيات الكفاح اليومي الى عالم تحكمه مغريات الترقي الطبقي، حيث مصلحة الشخص هي مصلحة ذاتية بحتة غير مرتبطة بالظروف الجماعية، كل ما عليه هو ان يفكر في نفسه ويطور من قدراته، وذهب بعض منهم الى ممارسة الفهلوه وتسليك الأمور والتملق للمدراء. 

وبعكس مظاهر التقشف الذين يتميز بها عالم (الاجراء اليوميين)، تنمو في عالم (الراتب الشهري) مظاهر الرفاهية وأنماط استهلاكية قائمة على التناوب الدائم والمستمر بين التملك والتطلع، وبالتالي أصبح الاستهلاك قيمة! والذي حول حياة الفرد الى سباق تجاه تحقيق هذه القيمة، ولعل معيشة العالمين (الاجراء اليومين) و(الراتب الشهري) فيهما نفس الهشاشة الطبقية واللتان تعانيان من عدم الاستقرار والأمان المعيشي. وبالتالي يقع بعض أصحاب الراتب الشهري تحت تأثير الابتزازات والاغراءات المستمرة، والتي تجعلهم يمثلون الاشكال الأكثر وقاحة ودونية في مشاريع الكفاح، لكي يدافعوا عن وجود بائس في وظائف عادية، وعلاقات اجتماعية متضخمة، متطبعين كل ما هو ناقص ووصولي وانتهازي لصالح خدمة وجودهم المهني، وبالتالي المعيشي. ايماناً بالأمر الواقع دون الاكتراث من العواقب والنتائج، بلا أي طموح او غاية سوى بقاء الوضع كما هو عليه.

لم تكن هذه الأوضاع الاجتماعية نتاج صدفة، بل كانت حصيلة سياسات ضاغطة على الطبقة العاملة والتي أدت الى تفكيك الترابط بين العمال، وجعل العامل وحيداً امام الجميع، وأنهت هذه الأوضاع مجتمعة عصر الشهادات وبدأ عصر السير الذاتية (C.V) فأصبحت شهادة البكالوريوس مجرد جزء من هذه السيرة الذاتية التي يجب ان تضم سنوات من الخبرة ولعمر معين لا يتجاوز الـ 30 عاماً، مما يعني انه لا فرصة امام المتخرج حديثاً وعدم انصاف أصحاب الخبرات الكبيرة.  

كل هذا كان لتعويد الناس على الوظائف الخدمية بدلاً من الوظائف الإنتاجية، لتأتي بعدها العقود السنوية، وأصبح التأمين يتم عبر دفع مبالغ لشركات التأمين وأصبح الضمان الاجتماعي يقوم الموظف بدفعه مباشرة الى دائرة الضمان بدلاً من رب العمل. 

كل ذلك أنتج ظروفاً قد تبدو موضوعية، لا تعمل لصالح الموظف وتحسين وعيه، وبالتالي تكبح تطلعاته نحو المستقبل، ويتم التغاضي على الأسباب التي أدت الى اضعاف قدراته، ويتحول السبب الى انه غير مؤهل او غير مجتهد. والنتيجة هو ظهور افراد لا يشعرون بذاتهم وتفككت اسر بسبب ظروف قهرية، وأدى ذلك الى القلق الدائم بصدد ما تخفيه الحياة لهؤلاء، والشعور بعدم الأمان، وفشل كبير يتشاركه الجميع ويستشرفون بوادره في كل تصوراتهم للحياة، لتتحول كل محاولاتهم لتحسين حياتهم الى ممارسات عبثية لا تجني سوى المزيد من الاحباطات. وكل النصائح التي تنهال علينا من قبل مدربي التنمية البشرية والمشاهير لا تشكل بالضرورة دافع او حافز نحو النجاح بل قد تؤدي الى نتائج عكسية، والمفارقة العجيبة ان هؤلاء المدربين أنفسهم لا يعرفون عمق المشكلة اصلاً ولا أسبابها. 

الرأسمالية العالمية متوحشة في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، وهي التي وضعت السياسات والتشريعات للسيطرة على مداخيل السواد الأعظم من البشر، من خلال خصخصة الخدمات العمومية وسلب الفرد حق الغذاء والمسكن الا بأجره، واعتبار النوادي الترفيهية والتجمعات الشبابية وقفاً على من لديه القدرة على دفع الاشتراكات الباهظة. فأنت لا تملك وظيفة او مصدر دخل لأنك كسول وليس بسبب التسريح والتشريد، وان كنت تبيع كليتك اليسرى او جسدك كأنثى، فأنت حر، وانتي حرة ايضاً، هذه النيوليبرالية. 

بالنهاية، أصبح الواقع مؤلم في ظل الفوارق الطبقية الفجة، والصعوبات المالية المتنامية، وقلة الوظائف، وفشل التعليم، والموت بالإهمال، وفساد الأغذية، والعيش في ظل الامراض المزمنة...الخ، وهي مشاكل تحاصر الفرد وتأخذ من وقته وصحته وسلامته النفسية والجسدية، لتفصله عن ذاته وعن الآخرين. وقد إثر ذلك على العلاقات الإنسانية بين الافراد بسبب الماكنة الإعلامية للمجتمع الاستهلاكي التي تروج لوهم الصعود الطبقي.

إرسال تعليق

0 تعليقات