فائزة محمد علي فدعم
في الطفولة كنا نتلهف لأيام شهر محرم وخاصة العشرة الاوائل منه . حيث يخرج الناس الى الشوارع ليتسامروا ويتحدثوا وهم يتابعون مواكب السبايا ( مواكب العزاء بمناسبة استشهاد الحسين رضي الله عنه ) وهذه الذكريات لازالت عالقة في ذهني لأني عشتها منذُ سن الخامسة حتى الحادية عشر من عمري . صورها تُراود مُخيلتي بشكل دائم حيث كان التعاطف والتعاون بين العوائل قبل عاشوراء فهم يعدون الملابس الملونة القابلة للتضحية بها بعد ان يبطل موديلها وتُصبح قديمة فيصبغوها في البيوت او ترسل الى محل الصباغة الذي يملكه والد الاستاذ عبد الامير الذي يستخدم مادة ( النيل ) ليُصبح لونها اسودا مُزرقا ترتديها كبار النساء والشابَّات والشباب لمدة عشرة ايام او حسب الرغبة والنذر الذي قررنَّ الالتزام به ويحرصنَّ على ملازمة المواكب التي تنطلق من منطقتي التكية والسراي واللتان تتباريان في اعداد الطعام والعمل يجري على قدم وساق من اجل احياء هذا الشهر .
في صباح اليوم العاشر تُوزع الهريسة على العوائل ويُشارك فيها الجميع فبعضهم يعد القدور الكبيرة والرايات والمواقد والخشب المستخدم في الطبخ والصحون كما يتولى آخرون تقديم الملابس التي يرتديها مؤدو الادوار في الموكب التي احتفظوا بها في منازلهم منذ السنة الماضية فتزين الخيول وتحضر السلاسل ( الزناجيل ) والطبول والسيوف ويتولى بيت احمد ( إبن بابي ) تنظيم الامور في جانب السراي والعم حسن ( ابو ابراهيم ) الموظف في دائرة الري في جانب التكية . الذي كان لديه ماكنه لتوليد الكهرباء في بيته . توضع على عربة يدفعها شخص قوي البنية يعتز بمكانته في تسيير موكب السبايا لأنه يوفر لهم الكهرباء من خلال سبعة أعمدة لكل منها ستة او سبعة مصابيح يُشرف عليها في السراي ( بيت علاوي . بيت الورد ) وفي هذه الايام العشرة يكون اللطامة منزوعي السيوف وهم يضربون على صدورهم .
لا يُمكن ان يسير أي موكب الا بإشراف المُتصرفية ( المُحافظة ) والشرطة بكفالة قدرها 500 دينار في حينها وكان الكفيل المقاول حسن الزيدي صاحب سينما الامير عبد الاله ومختارها السيد صادق شيرخان . في فترة الاعداد تجري لقاءات لإيجاد قارئ القصائد التي تختلف وتتغير يوميا ويطلق عليه ( الحادي )
وكان من قراء بعقوبة علي مطر . وفي اليوم الاول يتولى السَقّاء رش الماء حتى لا يثار الغبار يشاركه في ذلك اصحاب المقاهي وفي المساء تظهر رايات المواكب بمختلف الالوان ويحضر من يؤدون الادوار واذكر منهم السيد سعدون مراد الذي كان يُؤدي دور ابناء مُسلم وهو مُتميز في الالقاء وكذلك الشمر الذي يتقدم لاستلام ملابسه لقاء اجر كبير يأخذهُ من المسؤول . يخرج الموكب مساءا يحيط به النساء وهنَّ يصرخنَّ والشباب يضربون على صدورهم بأيديهم أو أظهرهم بالسلاسل يتقدمهم رجل من الكرد الفيلية واخر من اصول إيرانية يرتدي دشداشة سوداء طوال العام ولديه خبرة ودراية واسعة بإيقاعات الطبول ويتقدم رجالات بعقوبة من الوجهاء ويسيرون في المقدمة . لم اعرف منهم سوى السيد ابراهيم عيدان لأنه صديق والدي وفي اليوم العاشر الذي يسمى ( الطبگ ) تخرج مواكب السبايا وقت الضحى متجهة نحو الحسينية في مشهد مؤثر حيث نرى النعش والدماء والطيور فوقه وبكاء النساء في مشهد مُخيف وفي هذه الاثناء يصول الشمر ويجول مع اعوانه عليهم مرتديا رداءا احمر وتقاسيم وجهه المخيفة مُستخدما سيفه لتهديد الاشخاص المكبلين بالسلاسل الحديد الذين يمثلون دور آل البيت الامر الذي يثير الجمهور مما يؤدي الى إلقاء الاحذية عليه والحجارة واطلاق الكلمات النابية .
كانت حلقات السبايا تسمى الجوقة وبعضها مكونة من الطلاب والمثقفين وهم في تمام الاناقة وحسن التنظيم والايقاع في اللطم واداء القصائد الشعرية وهناك ايضا مجموعة من القصابين ومنهم السيد روي واولاده وبيت معلاگ والبنائين وكان في مقدمتهم السيد جليل سهر واخيه الاسطة جبار وجوقة الاطفال الذين يسمح لهم متعهد السبايا باللطم وسط الكبار ويكون القارىء محترما جدا وكلما كانت قصائده سياسية وضد الحكومة كان هو الافضل ومن الطرائف ان والدتي نذرت لله اذا رزقها مولودا ذكرا بان تُزيين الحصان بالذهب وهذه الحكاية يذكرني بها اهالي بعقوبة لحد الان لغرابة ذلك الفعل فاخذ خالي احد الخيول المدربة الهادئة ووضعوا على ظهره قماشا لونه بنفسجي مع وردة بنفس اللون مطرز بالكلبدون . لا ازال احتفظ به وفي ارجل الحصان خلاخيل ذهبية (حجول ) وفي رقبته قلادة ذهبية ايضا عليها الليرات المجيدية النادرة وهي غالية جدا في ذلك الوقت وبمساعدة خالي امتطيت الحصان متشحة بالسواد وحافية القدمين وعلى راسي خرقة خضراء فانطلقوا وانا معهم . كنا ننتظر الموكب في فسحة كبيرة موقعها الان امام مصرف الرافدين حيث توجد دار تعود الى والدي خلف بناية العنتبلي كان جالسا على عتبتها لمشاهدتي تحولت الان الى صيرفة السيد سعيد السامرائي .
كان والدي سعيدا وهو يشاهدني اجلس على ظهر الحصان فالمنظر مهيبا وخالي ممسكا اياه بيده اليمنى وبالأخرى ظهري كي لا اقع فقد كنت صغيرة وكادت طبلة اذني ان تتمزق بسبب اصوات الطبول العالية والغبار الذي تثيره الأحصنة وهي تتراكض كأنها معركة حقيقية يصحبها الصراخ والنواح والناس توزع الماء على الاسرى ويأتي الشمر بسيفه راميا الاناء على الارض وابناء مسلم يعيدون طلبهم للماء مرة ثانية لانهم عطاشا ويتعالى الصراخ وسار الموكب الى الحسينية ونزلت من الحصان مع السبايا الصغار وذهب خالي الى البيت ومعه الذهب دون خوف ( لان لصوص ذلك الزمان كانوا اشراف حقيقيين ) وارتقينا سُلّم الحسينية وكان سقفها مصنوعا من الخشب والطين والتبن وسطح القبة دون سياج وكل سيدة تمسك بطفلها مخافة الوقوع الى الاسفل .
كان مقابل السطح بناء الحضرة وفيها يجتمع الناس ووجهاء بعقوبة وكان اللطامة وسط الحسينية وبعد قراءة المقتل وانتهاء العزاء يذهب كلا منهم الى منطقته لتناول الطعام عند احد البيوت وهو الرز والقيمة او الهريسة واذكر منها بيت السيد ( جبار صديقة ) في التكية وبيت السيد ( صادق شيرخان ) في منطقة العنافصه وبيت ( مطر وبيت السعدي ) في المنجرة وليلة (الطبگ . المقصود بها العاشر من محرم ) كانت السبايا تجوب بعقوبة في الليل دون مصابيح وتسمى ( ظلماوي ) حدادا على شهداء الطف وهم يرفعون الاعلام السوداء المنكسة وتمرُ امام المقاهي وعند وصولها قهوة البلم وهي متجهه نحو الحسينية يرددون جميعا ( لاترفعوا الروس يا اهل الرياسة تره حسين اليوم عالرمح راسه )
في احدى السنوات في صغري ذهبت مع والدتي التي ايقظتني من النوم مُجبرة وافترشنا انا وبعض النسوة الارض وكنت وقتها متعبه لأني في اليوم التاسع ذهبت ايضا معها لحضور عزاء الحسين ( للنساء فقط ) في بيت السيدة كلثوم زوجة امدي ( ام كاظم ) مقابل دارنا وكان عزاءا فخما يجمع الملايات القديرات ( القارئات ) منهن الحجية امينة ( بيت بُني ) ومُله امانة ( زوجة مله سلمان) والملا مائدة من بيت علي طالب ( ام خلدون وام رابح والملا قسمة ام حيدر) زوجة السيد عباس ( والملا فاطمة ام عواطف ) طال العزاء فقد كانت تتبارى القارئات بما تجود به قريحتهن فواصلت النوم فانا متعبة من جهد يوم طويل فاعادتني الوالدة الى البيت وانا على هذا الحال وبعد فترة استيقظت لأجد نفسي على السرير فبكيت بكاءا مرا .
ومازالت المواكب والسواد والبكاء مُستمر
0 تعليقات