تنبيهُ الرُّفقـاء بأنّ العربيّـــةَ لغــــةُ الظــــــــــاء

مشاهدات




د. صفاء نصر الله



يشيعُ جدًّا بين المُختصّينَ والدّارسينَ فضلًا عن العامّة أنّ اللغةَ العربيّةَ قد خصّها اللهُ تعالى بحرف (الضاد) مِن بينِ سائرِ الأممِ, وهذه المعلومةُ أصبحت مِن المتعاهدِ عليها, بل هي مِن المسلِّماتِ التي لا يتناقشُ في طعنها اثنان, ولكنّ الحقيقةَ أنّ لغةَ القرآن لم تنفرد بهذا الحرف بالكليّة البتّةَ, إنّما انفردت بحرف آخر هو (الظاء), وهذا ما أثبتَهُ الخليلُ بن أحمد الفراهيديّ (ت:170ه) في أوّل مُعجمٍ عَرَفَتهُ العربُ, قال: "والظاءُ عربيّةٌ لم تُعطَ أحدًا مِن العجم، وسائر الحروف اشتركوا فيها"([1]), وقد نقلَ هذه المعلومةَ بعبارتِها نفسِها صاحبُ الإبانة([2]) مؤكّدًا ما قاله الخليلُ, وأكّد ابنُ دريد (ت:321ه) ما قاله الخليلُ, وزاد عليه حرفًا آخرَ, قال: "اعلم أنّ الحروفَ التي استعملتها العربُ في كلامها في الأسماء والأفعال والحركات والأصوات تسعةٌ وعشرون حرفًا مرجعهنّ إلى ثمانيةٍ وعشرين حرفًا، منها حرفان مختصّ بهما العرب دون الخلق، وهما الظاء والحاء، وزعم آخرون أنّ الحاءَ في السريانيّة والعبرانيّة والحبشيّة كثيرة، وأنّ الظاء وحدها مقصورة على العرب"([3]), ولا علاقةَ لنا بحرف (الحاء)؛ لاستعمال الأمم الأخرى له . 

هذه النصوصُ تصدحُ بأنّ ثَمّةَ خطأً كبيرًا قد حدث وانتشر, حتّى أنّكَ –أيّها القارئُ الكريمُ- ترى أكثرَ الناس عامّتهم وخاصّتهم قد سايروا هذا الخطأ, بل قالوا: إنّ (اللغة العربيّة لغة الضاد), وبدؤوا يتناقلونه جيلًا بعد آخر, حتّى رأينا كثيرًا من الجامعاتِ ترفعُ هذا الشعارَ في مؤتمراتِها, ومسابقاتِها البحثيّةِ, وفي الاحتفالِ بيوم (الضاد) إيماءةً منهم إلى أنّ العربيّة تنفرد بهذا الحرف.

ويُخيّلُ إليّ أنّ قولَ المتنبّيّ (ت:354ه):

وبهم فخرُ كلِّ مَن نطقَ الضا 

دَ وعوذُ الجاني وغوثُ الطريد([4])

 كان السببَ الرئيس لانتشار مقولةٍ مفادُها أنّ اللغة العربيّة تنماز عن غيرها بأنّها (لغة الضّاد)؛ إذ أوهمَ الكثيرَ مِن أصحاب اللسان العربيّ, بأمارةٍ من الواحديَّ (ت:468ه)؛ ذلك أنّ الواحديَّ توهّمَ وأوهم, ألا تقرأ معي ما قاله: ((الضاد للعرب خاصةً يقول فخر العرب كلّهم وبهم عوذ الجاني يعني أنّ من جنى جنايةً وخاف على نفسه عاذ بقويم؛ ليأمنَ على نفسه, وبهم غوث الطريد وهو الذي نفى وطرد أي أنه يستغيث بهم ويلجأ إليه فيعزّ بمنعتِهِم))([5]), وبقوله هذا أوهمَ مَن جاء بعدَه بأنّ العربَ قد خصّها اللهُ تعالى بحرف (الضاد), وذهب العكبري (ت:616ه) وِفاقًا لما قاله الواحديّ, وإن كانت مقولتُه حمّالةَ وجهٍ آخر؛ إذ فسّرَ قولَ المتنبّيّ:

وبهم فخرُ كلِّ مَن نطقَ الضا

دَ وعوذُ الجاني وغوثُ الطريد([6])

بأنّهم ((أفصحُ العرب؛ لأنّ الضادَ لم ينطق بها إلا العربُ أي هم فخرٌ لكلِّ العرب))([7]).

ولكنّ أبا العلاء المعرّي (ت:494ه) لم يقع بما وقع به مَن كان قبله, ومَن جاء بعدَه حينما فسّرَ هذا البيتَ؛ إذ فسّره على مدح المتنبّي للعرب بهذه الخصلة؛ لأنّهم ينطقون به بصورةٍ صحيحة, وهم بهذا ليسوا كغيرِهِم في إتقانِ مخرجِهِ وإعطائِهِ صفاتِهِ كاملةً من غيرِ عيبٍ ولا نقص, ولم يقل: إنّ العربَ انفردت به عن باقي الأمم؛ قال: "وقوله:

وبهم فخر كل من نطق الضا  

د وعوذ الجاني وغوث الطريد([8])

معروف بين الناس أنّ الضادَ يتعذّر النطقُ بها إلّا على العرب, وذلك بيّنٌ إذا تفقّد, والمتفقّهون من العجم بالعراق لا يكادون ينطقون بالضاد صحيحةً, ولابدّ لهم مِن تحريفها, إما إلى الظاء, وإما إلى الذال, وذكر ابن دريدٍ أن الظاء هي المقصورة على العرب, وأن الضاد قد يستعملها بعض العجم"([9]), ثُمّ ساق لنا المعرّي حكايةً تُظهرُ صعوبةَ نُطقِ (الضاد)؛ وذلك أنّ "حِجرًا أبا امرئ القيس لمّا أخذ في قولِ الشعرِ أُنكِرَ عليه ذلك, وأحضروه, وقال: لا تبرحْ حتّى تأتيَ بخمسين بيتًا على قافية بين الضرس والثنية, فقيل: أراد الضادَ, وقيل: أراد السين, فأما الأطفال مِن كلّ الأجناس فتكون الظاء أخفّ عليهم مِن الضاد حتى يؤخذوا بإخلاصها والإتيان بها على ما يجب"([10]).

نستبينُ ممّا تقدّم أنّ اللغةَ العربيّة تنماز عن غيرها من اللغات بحرف (الظاء) وليس (الضاد)؛ وذلك بالاتّكاء على النصوص المنقولة من أمّات المعاجم, وأنّه لابُدّ من نشر هذه المقالة (اللغة العربيّة لغة الظاء) في أرجاء البسيطة؛ لينعمَ الناسُ بالمعلومة الصحيحة.

إضاءتان([11]): 

الأولى: يختلف مخرجُ (الضاد) عن مخرجِ (الظاء)؛ فمخرج (الضاد) يكون من إحدى حافّتي اللسان اليمين أو الشمال, أو كلتيهما مع محاذاة الأضراس العُليا, وأغلب العرب تُخرجُه من اليمين, أمّا مخرجُ (الظاء) فمِن طرفِ اللسانِ مع أطرافِ الثنايا العُليا .

الأخرى: يتّفق الحرفان بالصفات الآتية: (الجهر, والرخاوة, والاستعلاء, والإطباق, والإصمات), ويزيد حرف (الضاد) عليه بـ(الاستطالة).



([1]) كتاب العين: 8/174, لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري, بتحقيق: د. مهدي المخزوميّ، و: د. إبراهيم السامرائيّ, الناشر: دار ومكتبة الهلال.


([2]) انظر: الإبانة في اللغة العربية: 3/465, لسلمة بن مُسلِم العَوتبي الصّحاري, بتحقيق: د. عبد الكريم خليفة, و: د. نصرت عبد الرحمن, و: د. صلاح جرار, و: د. محمد حسن عواد, و: د. جاسر أبو صفية, الناشر: وزارة التراث القومي والثقافة - مسقط - سلطنة عمان, ط1: 1420هـ - 1999م.


([3]) جمهرة اللغة: 1/41, لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي, بتحقيق: رمزي منير بعلبكي, الناشر: دار العلم للملايين – بيروت, ط1: 1987م.


([4]) ديوان المتنبّيّ: 21, الناشر: دار بيروت للطباعة والنشر-بيروت, طُبِعَ في 1403ه-1983م. 


([5]) شرح ديوان المتنبي للواحدي: 18.


([6]) ديوان المتنبّيّ: 21 . 


([7]) شرح ديوان المتنبي: 1/322, لأبي البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري البغدادي محب الدين, بتحقيق: مصطفى السقا, وإبراهيم الأبياري, وعبد الحفيظ شلبي, الناشر: دار المعرفة - بيروت.


([8]) ديوان المتنبّيّ: 21 . 


([9]) اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي: 397, لأبي العلاء أحمد بن عبد الله المعري, بتحقيق: محمد سعيد المولوي, الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية, ط1: 1429 هـ - 2008 م.


([10]) اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي: 398 .


([11]) انظر: الكتاب: 4/433, لعمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب سيبويه (ت:180هـ), بتحقيق: عبد السلام محمد هارون, الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة, ط3: 1408 هـ - 1988م, وسر صناعة الإعراب: 1/60, لأبي الفتح عثمان بن جنّي الموصلي (ت:392هـ), الناشر: دار الكتب العلمية بيروت-لبنان, ط1: 1421هـ- 2000م, والممتع الكبير في التصريف: 425, لعلي بن مؤمن بن محمد، الحَضْرَمي الإشبيلي، أبو الحسن المعروف بابن عصفور (ت:669هـ), الناشر: مكتبة لبنان, ط1: 1996م.

إرسال تعليق

0 تعليقات