هل الحرب السيبرانية هي الحرب المثالية

مشاهدات



الدكتور تحسين الشيخلي

مركز بحوث دراسات المستقبل - لندن


خلال سنوات الحرب الباردة بين قطبي الصراع ( الاتحاد السوفيتي – الولايات المتحدة ) المالكتان لأكبر قوة نووية ، كانت مشاهد الدمار لمدينة هورشيما شاخصة في الاذهان . ولم تنته هذه الحرب الا عام 1990 عندما انهار الاتحاد السوفييتي . لكن صورة الدمار الذي يصاحب استخدام هذه القوة ما زال شبحا يرعب العالم .

ومع كل صراع بين طرفين تحضر صور الدمار و القتل و التهجير ، وصورة بغداد وهي تتعرض للعدوان الامريكي ما زالت ماثلة في الأذهان .

لم تحقق الحروب على مدى التأريخ أي تغيير في الطبيعة البشرية ، و لم تقضي على شعب ما ، ولكن كل حرب تخلف الاف القتلى و الجرحى و المشردين و المعاقين.

ورغم بشاعة الحروب يبقى (الصراع على الأسواق الاقتصادية والتحكم بمصادر الطاقة وثروات الشعوب،الصراع على النفوذ والهيمنة والتسلط والسيطرة على قرار دول وأموالها وعلى مصير بلدان وشعوب، الصراع بدماء أبناء العالم من أجل السيطرة على العالم..)  يجر العالم إلى صراعات دامية وحروب ومآس وكوارث..وفي هذا الأفق المظلم تبدو الأزمات بلا حلول، والصراعات إلى تصعيد، والقوة إلى توحش، وفقراء العالم وشعوبه المنكوبة بصراع القوة والأقوياء إلى مزيد من البؤس واليأس  الكوارث. وينعكس هذا كله سلبياً على الأمن والسلم العالميين وعلى الشعوب في العالم؟

يقول المفكر العسكري الالماني كلاوزوفيتس في الحرب (إن الهدف منها هو جعل العدو ينصاع و ينفذ ما نرغب به وما نصبو اليه).

السؤال الذي يرهقنا ، في خضم هذا التسابق من أجل السيطرة على العالم ، هل نشهد حرب بدون قتلى و جرحى و تدمير مدن و قرى ؟ حرب يتم فيها الصراع بدون دبابات و مدافع و قاصفات ؟ حرب مثالية ، حرب تحمل بين صفحات معاركها قيم و مثل أخلاقية و أنسانية !!! ، حرب تتحقق فيها مقولة كلاوزوفيتس بدون خسائر بشرية على الاقل ، حرب عادلة مثلما أطلق عليها الرئيس الأمريكي أوباما . ونظرية الحرب العادلة ليست جديدة في طروحاتها ، فهي اعتقاد في علم الاخلاق ، الهدف منها هو التأكيد بأن الحرب قابلة للتبرير الاخلاقي تحت شروط ، هذه الشروط مثلما ذكرها الباحث تشارلس كوثري في كتابه ( الحرب العادلة : تقاليد الحرب العادلة ) هي الحق للذهاب الى الحرب و السلوك النزيه وقت الحرب.

يقول ديفيد سانجير في كتابه (  السلاح المثالي: الحرب والتخريب والخوف في عصر الفضاء الرقمي ) ، ان ذلك ممكن في عصرنا الرقمي ،فالصراع ممكن ان يتحول الى مواجهات أشبه بالحرب او في حقيقتها هي مواجهات حرب بين أطرافها تتحقق غاياتها باستخدام سلاح لا تقل تأثيراته عن دمار القنبلة النووية لكن بدون دمار حقيقي على الارض ، و ضحاياه هي أجهزة و معدات و بنى تحتية و ليس البشر . 

إن فكرة الحرب المثالية ينظر لها البعض بأنها فكرة لا تصدق. لأن مصطلح الحرب مرتبط دوما بصورتها الوحشية و كونها نموذج للشر. ولكن مع ذلك يمكن للحروب أن تكون أفضل أو أسوأ من الناحية الأخلاقية. وهذا يعني ضمنا أن نوعا من الحرب يمكن أن يكون جيدا أخلاقيا قدر الإمكان. الحرب المثالية ستكون حرباً الخسائر فيها في صفوف المدنيين ضئيلة أو معدومة و مظاهر العنف غائبة عن صورتها على اقل تقدير.

  الحرب يجب أن تكون قائمة في ظل خلفية من الصراع المعترف به علنا بين المتحاربين. لقد جعلت الحرب السايبيرية هذا النوع من الحرب المثالية ممكنا لأول مرة من خلال تحسين قدرة الدولة بشكل عميق على توجيه قوتها وقدرتها على توظيف واستخدام ادواتها و اجهزتها في الفضاء السايبيري كأسلحة . وبما أن الحرب السايبيرية لا تثير أي مخاوف أخلاقية خطيرة بما يكفي لمواجهة فوائدها الواضحة ، فنحن كما يبدو ملزمون بتفضيل استخدام أدوات الفضاء السايبيري كأسلحة حيثما كان ذلك عمليا بدلا من استخدام أسلحة الدمار و القتل. 

ربما يثار سؤال فلسفي ،هل يمكن اعتبار الحرب السايبيرية  أفضل أخلاقيا من غيرها؟ و بالتالي  نشهد حرب مثالية أخلاقيا، حرب هي الأقل سوءا من الناحية الأنسانية قدر الإمكان. 

في فن الحرب ، ينظر لأستخدام العنف على اساس تناسب الحد الأقصى من الضرر الذي يلحقه مع الحد الأدنى اللازم لتأمين هدفه الاستراتيجي. أي أن التناسب هو علاقة بين حجم الضرر الذي يجب إلحاقه والأهمية الاستراتيجية (أو الصالح الأخلاقي) للهدف الذي يتعين تحقيقه.

نحن نعيش في عصر وصل فيه عدد الفضائيات الى اكثر من عشرة الاف محطة تلفزيونية فضائية ، و امتدت شبكات الانترنيت ليصل عدد المشتركين فيها و يستخدموها الى اكثر من اربعة مليار مستخدم ، ناهيك عن اكثر من اربعة مليار جهاز هاتف خلوي و لوحي ، واصبح بامكان أجهزة الأمن و الاستخبارات التجسس على معظم الناس ومعرفة أرائهم و التنبوء باتجاهاتهم الفكرية و وضع البرامج الثقافية و الاعلامية المناسبة لتوجيههم وفق نظرية القوة الناعمة .

وهذا الفعل لم يعد مقتصرا على دولة معينة بل يمكن لأي دولة تمتلك الامكانات المادية و البنية التحتية المناسبة من تطبيقها . خاصة مع فشل خيار الحسم العسكري في تحقيق الغايات ، خيار الحروب العسكرية التي تقوم على الضربات الجوية و التوغل البري و احتلال المواقع .

عقيدة القوة الناعمة و الحرب السيبرانية هي نتيجة تحالف بين التكنولوجيا و السياسة ، لذا أطلق عليها ( التكنولوجيا السياسية ) ، والتي أصبحت اليوم هي بمثابة ما كان يمثله السلاح النووي من قوة ردع ، واذا ما كان سباق التسلح في فترة الحرب الباردة هو بين من يملك اكثر عدد من القنابل الذرية و الصواريخ العابرة للقارات التي تحمل رؤوسا نووية ، فأنه اليوم يقاس بالأمكانات التكنولوجية التي تحقق الضربات السيبرانية التي تستهدف البنى التحتية و منشأت الطاقة و حتى مواقع وسائل الاعلام .

يقول  ك. سالباك الاستاذ في جامعة أوسنابروك الدنماركية  في كتابه (   أساسيات الحرب السيبرانية: فهم أساسيات الحرب السيبرانية من الناحية النظرية والتطبيقية ) ، الحرب السيبرانية فعاليات تدور في عالم افتراضي قائم على استخدام بيانات رقمية و وسائل اتصال تعمل الكترونيا ، ومن ثم تطور ليتضمن مفهوما أوسع يقوم على تحقيق اهداف عسكرية او أمنية ملموسة و مباشرة ، جراء اختراق مواقع الكترونية حساسة عادة ما تقوم بوظائف تصنف بانها ذات أولوية ، كأنظمة حماية محطات الطاقة النووية او الكهربائية او المطارات او اجزاء اخرى من البنى التحتية.

في حين يذهب ماركو روسيني في كتابه (الحرب العالمية القادمة ) الى انها تطويع الأمكانيات الرقمية العسكرية لأجل التأثير في مواقع الكترونية أخرى لغرض تعطيلها أو تدميرها سواء كانت تقدم خدمات مدنية او عسكرية.

كريستوفر فينلي ، استاذ النظرية السياسية في جامعة دورهام ، وفي بحث علمي منشور ، اشار الى ان الهجمات السيبرانية يمكن ان تصنف ضمن أساسيات الحرب العادلة ..حيث قال( أن ظهور التهديدات الإلكترونية عبر الإنترنت بمختلف أنواعها بوصفها حقيقة من حقائق الأمن الدولي قد دفع بالحكومات وهيئات الخبراء والعلماء إلى دمج تلك الظواهر في إطار الحرب العادلة. فعلى سبيل المثال، في دليل تالين الخاص بالقانون الدولي المطبق على الحرب الالكترونية عبر الانترنيت، تقول المجموعة الدولية للخبراء إن  قانون استخدام القوة الخاص بمسوغات شن الحروب والقانون الدولي الانساني  المتعلق بالسلوك العادل في الحرب  كليهما ينطبقان على العمليات الإلكترونية عبر الإنترنت. ونتيجة لذلك، يتتبع الدليل المنطق وراء البروتوكولات الإضافية للعام 1977 لمعاهدات جنيف للعام 1949، ويتعامل مع الإجراءات الإلكترونية عبر الإنترنت بوصفها صنفا جديدا من أصناف (السلاح ) وبالتالي فهي تخضع لمتطلبات القانون الدولي الإنساني وقيوده. وذلك يربط الأمن والهجمات الإلكترونيين عبر الإنترنت بصورة وثيقة مع اثنين من الأقسام الفرعية الأساسية من نظرية الحرب العادلة، ألا وهما قانون استخدام القوة و القانون الدولي الانساني).

أذن ، هل يمكن أن يتم تبرير الحرب السايبرية بوصفها شكلا من أشكال الحرب المثالية ؟

 كيف يمكن أن تنطبق شروط قانون استخدام القوة على الهجمات السايبرية ، أي هل يمكن لإبعاد أو منع الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت أو ما شابه أن تشكل جزءا من سبب عادل أوسع ؟ 

و بالتالي هل يمكن ان تصنف الحروب السايبرية و الهجمات الالكترونية وفق منطق أخلاق الحرب بأنها الحرب النظيفة التي تحقق الاهداف بدون خسائر بشرية ؟

إرسال تعليق

0 تعليقات