علــي النصــــير
عندما تتحول قطعة رخام جامدة إلى حياة باذخة ضاجة بكل أصوات الوجود من جمال وشعور، فما ذاك ليكون إلا بفعل سحر الفن وماهيته الخالقة. ذلك الوصف قد ينطبق على فنان عصر النهضة الإيطالي ليوناردو برنيني 1598-1680)),. و بالرغم من صغر سن الفنان فقد أنجز من الروائع ما يظل خالداً على مدار الزمن، وفي مقدمتها رائعته النحتية (إغتصاب بروسربينا). وتدور موضوعتها عن آختطاف (بلوتــو)، إله العالم الأسفل، لربة الربيــع ( بروسربينا). في هذا التحفة الفنية الخالدة نرى فعل الإغتصاب وردة فعل الغادة رائعة الحسن تجاه ذلك الفعل الإلهي البشري. نستطيع ان نؤمن بأن مادة الرخام هنا تنطق من خلال فن النحات الايطالي " لورينزو" بدقة وحرفية وتجردت من طبيعتها كونها الطبيعة الصماء، قمة العبقرية والمهارة والنباهة في التمعن جيدا بتفاصيل الجسد لكلا التمثالين، تلك الرائعة الرخامية تعكس لنا الكبيعة البشرية في تلك الحقبة حيث البنيان رشيق قوي كالقوة الجسمانية التي يتمتع بها بلوتو. هنا، لابد من القول إن مآثر الفن في عصر النهضة هي محاكاة لأعمال الفن لدى الأغارقة والرومان. الفن هنا توصيل بصورة خيالية خارقة.
لنتأمل في وضعية يدي "بلوتو" كيف تؤثر على جسد الفتاة "بروسربينا" قبضة قوية جدا حيث انغرزت كلتا اليدين في جسدها وكأنه لحم بشري طري وليس كقطعة من الرخام. فعلا نرى امامنا لقطة حقيقية واقعية وليس تمثال صامت، سافر بنا الفنان الايطالي خلال عمله هذا الى عالم الحقيقة قبل الخيال وجعل الحجر ينطق ودس الواقعية الحركية بكل فن ومهارة فأصبح هذا العمل من أشهر اعماله، ما مدى الذهول الذي سيتولد لديك إذا وقفت الان امام هذا العمل وتطيل النظر اليه بكل تركيز؟
( لقد طوعت الرخام وجعلته لينا وكانه مادة شمعية) هكذا وصف الفنان الايطالي عملة على المنحوته، فقد اعطى لمادة الرخام احساسا بشريا ناطقا يلامس قلوب المشاهدين ليمد لهم فن التصور الحقيقي الذي قام به ومدى الاحترافية والدقة، هنا نرى الابداع الحقيقي الكبير في ميلان جسد الشابة وهي تحاول التخلص من قبضة بلوتو القوية وهي يآسة تماما، وايضا الأوردة الظاهرة على اليد و انسدال الرداء من تحت ساعد "بلوتو" وحتى اسفل قدم "سروبينا" . قصد ايضا الفنان الايطالي الحالة التي نعيشها الان ايضا لكن جسدها من زمن قديم. تصور هذا الابداع اختتم ونفذ من قبل شاب بعمر ال23 من عمره ، هكذا يكون الاصرار والارادة ولا يوجد مستحيل في حياتنا فالجميع يمكن ان يصبح "لورينزو".
تنقل المنحوته ايضا الدقة المتناهية لحركة الفتاة وهي تصرخ وتستنجد وتذرف الدموع لمحاولة الافلات، والحزن واليأس ونفاذ الحيله يخيم على ملامح وجهها والنشوة والقوة والغطرسه تخيم على وجه بلوتو، هكذا هو ابداع الفن يأخذنا لعالم اخر عالم مليئ بالتأملات والخيال والسحر والجمال والاساطير وحتى التطوير كتطوير العقل والعلم والمعرفة. نقف ذاهلين وقوف طفل أمام عظمة البحر في ليل عاصف. هذه المنحوتة هي قصيدة للجموح والعنفوان الذي يتفجر في قطعة رخام. يتجلى أمامنا مقصد الفنان وخياله الإبتكاري وفلسفته في الفن التي تجسدت أجمعها في (إغتصاب بروسربينا). إنها الحياة العاصفة في الفن، فما أروع الفن ـ وما أروع الإبتكار.
0 تعليقات