حسان الحديثي
من سلسلة احاديث تصف رحلتي الى العراق
طالما وقفت متحيراً امام فكرة حزام الأمان في الطائرات فهو في حقيقته لا يحمي من الموت البتة، ولكنه يحمي راكب الطائرة -بعد ان يموت- من أن يكون شيئاً متحركاً في فضاء الطائرة التي ستصبح -عند تعرضها لحادث- كخلاط سيدات المطبخ الذي يفرم الاشياء ويحيلها الى خليط لزج ويحيل الاشياء المعروفة منكرة الشكل واللون والملمس، هذا لا ينفي أن الاحصائيات تضع الطائراتِ واسطةَ النقل الاكثر أماناً بين وسائط النقل، ولكني في الحقيقة أرى وسائط النقل كلها أكثر أماناً وثقةً من وسائط التواصل الإجتماعي.
بغض النظر عن كل ما تقدم، شخصياً احب لحظات إقلاع الطائرات واشعر انني لا احتاج في تلك اللحظات الا لترك التفكير بأي شي والتفرغ الى الاسترخاء والتأمل بعظمة صنع الله لعقل الانسان الذي أبدع كل هذا الابداع. فهذه اللحظات -بالاضافة الى مزيج الخوف والتوجس والسعادة الذي تبعثها في النفس- هي تغيير كونيٌّ لطبيعة الخلائق بل هي أشبه بلحظات اختراق الناموس، والناموسُ هو قانون الأشياء وشريعتها وطبيعتها في الخلق والتكوين والتأثير فالإحراق هو ناموس النار والاغراق هو ناموس الماء وهكذا، وما نجاة ابراهيم من النار ومشي عيسى على الماء الا معجزات عطّل بها الله طبيعة النار والماء في الاحراق والاغراق..
والطيران هو طبيعة الطيور وسبيلها في الانتقال وعندما يطير الانسان أو يغوص في اعماق البحار والمحيطات فهو في الحقيقة يأخذ من الطيور والاسماك طبعها وطبيعتها وذلك كله كسر لناموس الحياة ولو طار الانسان في العهود القديمة لآمن به من حوله من البشر ولاعتبروا صُنعَه معجزةً من المعجزات لانه امر خارق لطبيعة الزمن والبيئة اللذين يعيش فيهما.
ولحظة اقلاع الطائرات فيها إحساس هائل الجمال فانت -وان كنت حبيس اسطوانة طويلة يمتد في جنبيها جناحان عظيمان تخترق بهما الفضاء بسرعة عالية الا انك -ايها الانسان- استعرت من الطير طبيعته واخترقت بالعلم ناموسه الأزلي والابدي، بل وتجاوزته في الارتفاع والعلو لطبقات لا يستطيع الطير بلوغها، فيا ايها المحلقون في الطائرات تمتعوا بأوقات تحليقكم فانها أوقات انتصار عظيمة للانسان كسر بها الناموسَ بالعلم.
كانت الرحلة التي دامت اربع ساعات ونصف من لندن الى اسطنبول آمنةً هادئةً مستقرةً لم يشبْها اهتزاز ولا تأرجح اللهم الا ميلانٌ خفيفٌ عند الاستدارة واهتزاز لطيف في لحظات الهبوط والتي كنت قد وصفتها يوماً فقلت عن الطائرة لحظة هبوطها: انها تجري على المدرج كالسهم وتلامس الارض كمفلطح الحصى يُقذف به وجهُ الماء.
كان مطار اسطنبول على النقيض من مطار لندن في الضجيج والازدحام وكأن مَن فيه من البشر يعيشون خارج زمان كورونا؛ طائرات تهبط وطائرات تقلع ومسافرون قادمون من وجهات مختلفة وراحلون الى وجهات مختلفة، لقد وقفت طويلًا امام توصيف المطار؛ كيف وبماذا اشبهه فوجدت انه اشبه بمبنى البريد الذي يستلم الرسائل والطرود من انحاء مختلفة ليعود ويرسلها الى انحاء اخرى مختلفة لكن الاختلاف بين مكتب البريد والمطار ان البريد محطة اتصال للجمادات والمطارات محطة اتصال للجمادات والبشر على حد سواء.
الشي المميز في مطار اسطنبول انه عامر بالمطاعم والمقاهي التي تقدم الوجبات والاطباق التركية المحلية لا كبقية المطارات التي تقدم في غالبها الوجبات العالمية المنتشرة او ما يسمى اصطلاحاً بـ "مطاعم الوجبات السريعة" وهذا امر يحسب للاتراك في هذا الاختلاف الايجابي كما ان اروقته ومرافقه ونواحيه قادرة على القضاء على اوقات الترانزيت والانتظار التي يعاني منها المسافر في بعض المطارات الاخرى ولا ننس ان اسطنبول تصل العالم بمدن في اسيا وبلدان القوقاز كذلك بلدان آسيا الوسطى الممتدة من بحر قزوين غرباً حتى الصين ومنغوليا شرقاً ، ومن أفغانستان جنوباً حتى السوفيت وجمهورياته المنحلة شمالاً. وهذه الرقعة الجغرافية لم نطلع عليها جيداً وعلى طبيعة سكانها كاطلاعنا على جغرافية وطبيعة افريقيا واوروبا وامريكا بالاضافة الى جغرافية الشرق الأوسط والعالم العربي لاجل ذلك ترى في مطار اسطنبول من الناس والاجناس مالا تراه في مطارات العالم الاخرى. و لاجل ذلك ايضا انقضت الساعات الاربع بلا ضجر او ملل لتنطلق بنا طائرة اخرى الى الجنوب الشرقي، الى ارض الحضارة الأقدم والاخصب والأعرق، الى ارض التضاد والمفارقات والعجائب الى الارض الاكثر حظاً في هبوط الانبياء والاسوأ حظاً في سفك دماء الاولياء، الارض التي انطلق منها قانون العدل لتعيش تحت وطأة والاستغلال الظلم، الارض التي انبثقت منها حروف الكلام والحساب والارقام لتتأخر عن ركب العلم والمعرفة، الارض التي انجبت العلماء والاطباء ليسافر اهلها الى بلاد الهند والترك للتطبب وطلب الدواء والشفاء... انها ارض العجائب والمتغيرات حقاً انها ارض ما بين النهرين.
اقلعت الطائرة المتوجهة بنا الى مطار اربيل الساعة الحادية عشر والنصف ليلاً وكانت رحلة آمنة هي الاخرى ولم ينغص عليَّ متعة التحليق سوى مضيّف الطائرة الذي اتخذني هدفاً له؛ كلما نزلت كمامتي قليلا من على أنفي اقتنصني من بعيد وجاء مسرعاً ليطلب مني لبسها بشكل صحيح بحيث تغطي الانف والفم، لقد أثار حفيظتي بتركيزه علي دون بقية المسافرين فلم يكن امامي الا الاحتيال عليه حين ملأت كوبي ذا النصف لتر والحافظ للحرارة -والذي احمله معي دائماً - ملأته بالشاي وازحت كمامتي كلياً لاتمتع بارتشافه حسوة بعد حسوة على ارتفاع خمسة وثلاثين الف قدم وكلما طلب مني ذلك المضيّف لبس كمامتي تعذرت له بشرب الشاي، ساعتان ونصف من المضايقة والاغاظة المتبادلة بيني وبينه حتى حطت بنا الطائرة في مطار اربيل عاصمة كردستان العراق.
اربيل مدينة في شمال العراق ذات اغلبية كردية والشعب الكردي يمثلون جزءاً اصيلاً من شعب العراق كما ان هناك تمازجاً وتزاوجاً قديماً بين العرب والكرد وتشابهاً ببعض الطباع ونظام والمعيشة والحياة، تغير بعضها في السنين الاخيرة وبقي الاغلب كما هو، واربيل هي المدينة الاكثر تنظيماً وترتيباً وأماناً بين مدن العراق وقد نأت بنفسها عن المشاكل في مدن العراق الاخرى وهذه الاسباب جعلت السياحة والاستثمار والاقامة فيها هدفاً لكثير من العراقيين لذا لا يجد العراقي اختلافاً من حيث الطبيعة والحياة الا اليسير الذي تفرضه عادات وتقاليد الشعب الكردي فيها.
كانت الساعة تشير الى الثانية صباحاً من يوم الخامس والعشرين من شهر يناير حين هبطت الطائرة وكان المطار هادئاً ودافئاً وفارغاً ايضاً الا من مسافري الرحلة التي وصلتُ عليها للتو ويبدو كل شي في المطار مرتباً وجميلاً ولم تفت الا دقائق لانهي اجراءات الوصول واستلام حقائبي ليكون وجه صديقٍ لي أول وجه ألاقيه في المطار بعد ست سنوات لم اره فيها، كل شي فيه كما هو؛ طبعُه ولطفُه ووجهُه الضاحك سوى بعض الشعرات البيضاء التي نبتت بسالفتيه الفاحمتين....
لم تكن نهاية الرحلة في اربيل فصديقي الجميل هذا كان قد جهّز لي سيارةً تقلّني مباشرة من اربيل الى العاصمة بغداد فلم اكن اريد التاخر كثيراً في اربيل الا قدر ما أجبرني عليه صاحبي لشراء خط تلفون والتزود ببعض قناني الماء ولفيفات لسد جوع الطريق واعادة ملء كوبي الأنيق بالشاي العراقي المعطر بالهيل من احد مقاهي الاحياء الشعبية في اربيل كانت الساعة تشير الى الرابعة والنصف حين بدأت رحلة جديدة ولكن برّاً هذه المرة الى بغداد، انطلق بي سائقي فجراً الى الجنوب فعاودت ترديد أبيات سعدي يوسف :
سلاماً أيها الولدُ الطليقُ
حقائبُكَ الروائحُ والرحيقُ
ترى الأشجارَ عندَ الفجرِ زُرقاً
وتلقى الطيرَ قبلكَ يستفيقُ
سلاماً أيها الولَــدُ الطليقُ ...
0 تعليقات