د. سحر أحمد علي
الأعراف والعادات والتقاليد عند العرب كخلاصة لتعاقب حضاراتهم هي بمثابة تعليم وحكم ومفاهيم موروثة للأجيال القريبة والبعيدة في المدى القادم ..
ومازلنا نحافظ عليها وعلى مصداقية تداول قصصها وحكاياتها بشكل كبير مع بعض التغييرات العصرية الملائمة مما يتماشى مع أسلوب وطريقة الحياة التي تتجدد وتتطور بحسب تقدمات واتيكيتات مايسمونه فلسفيّاً حضارة (صراع الواقع على أرض الوقائع) بفرض التطور الفكري في فهم الأرضي والسّماوي ..
إلا أن المبادئ الانسانية هي الوحيدة التي لاتتغير مع تقادم الزمن مهما تعثرت وتبعثرت أوراق الأخلاق النفسية والجسدية والفكرية ..
الإنسانية مفهوم متمرد على الحقد والكراهية، إنها بآن معا المبادرة لفعل الخير بحسب الامكانيات المتاحة في الوقت المناسب مما نحتاجه في سبيل الخير للناس، فيما نتمناه لأنفسنا وعلى مبدأ حب الجميع فذلك لايمنع أن نحب حتى الشخص المسيئ ولكن نكره إساءته ..
وهنا تتدخل الفطرة التي فطر عليها الإنسان العاقل وليس الكائن الغرائزي !!
فالإنسان يخلق كَقطرة الماء الصافية النقية الخالية من كل شوائب في شمس تجاربه الحياتية اليومية، وقطرة الماء نفسها تتعرّض لهواء هادئ لطيف حيناً وحيناً لهواء عجاج بفعل ظروف المناخ فتتحول في صراعات متباينة وبفعل شدة وقسوة المناخ ممتزجة مع أتربة متناثرة وغبار ملوث ليظهر شكلها الكريستالي النقي متبدلا في أشكال وألوان موحلة شائبة ..وهي عندما تستقر الأحوال تكون مخيّرة، فإما ترجع كما كانت عليه وإما أن تستمر على ماألم بها من ظروف المناخ..
ماأحوجنا اليوم أن نطلب من شمس الأمل أن تساعدنا على تبخر هذا الجزء المائي الملوث من إنسانيّتنا لتسمو إلى صافات الغيم السماوي، وتعود بنا من جديد حبات مطرية إنسانية نقية ..
وكأنني بها مرآة لموروثات آبائنا وأجدادنا ؟!!
إذا صبرنا على شمس التّجارب كانت لنا شمس أمل تسعفنا إيجابيا حتى لو لُدِعْنا بعمود حرارتها الشّديدة فهي كفيلة لحرق آلامنا ولخلاصنا حتى المنتهى ..
سئل أحدهم في زمن حاتم الطائي المعروف عنه بقوّة كرمه، وهو الذي استقبل ضيوفه في زمن قحطه وحاجته، فلم يكن منه إلاّ أن يذبح دابته الوحيدة والتي لم يبقَ من ملكه سواها ..وبعدها قصده أحد الأعراب الجيّاع فاستقبله محرجاً عندما لم يكن يملك الطّائي بوقتها كسرة خبز ليقدمها للضّيف، وبعد زيارته سأله ذووه وكل من صادفه وسمع بزيارته للطّائي عن استضافته واستقباله له، فلم يكن بِوسع هذا الأعرابي إلا أن يمدح به وبجوده الاستثنائي ..
- توافدت الأخبار للطّائي آنذاك وشعر بالخجل فذهب باحثاً عن الأعرابي وسأله عندما وجده لماذا أخبرت الناس بعكس مارأيته مني ؟!!
فقال له: لأنهم لن يصدّقوني ولو قلت الصّراحة لن يؤثر وربما لن يصدقوني ..
هذا الإنسان شعر بإنسان آخر داخل سريرته وتكلم بمكنون فطرة الإنسانية الحقيقية، فهو يعلم كما كل الناس أنه مثال الكرم ولكن امتداد الانسان الذي بداخله قال عنه وعَذَرَه، مقدِّراً الظروف القاهرة فوق العادة والتي منعته من حُسْن ضيافته المعروفة وهنا ندرك عقلانية الانسان الذي بداخله.
في ظروف الحياة المعيشيّة اليوم نلتمس واقعا مشتّتا عند جميع البشر وأحيانا نجد ردود أفعال سلبية وبعضها إيجابية ..
فأمّا الإيجابيّون فهم من يستمر بعادات فطرية موروثة ويلتزم بها كَأعراف مقدّسة راسخة حيث يعبّرون عنها بوجود الانسان في الانسان فيُؤْثِرون لغيرهم مايحبونه لأنفسهم ..
إن الصّدقة بجميع مفاهيمها ظاهرة مجتمعية رائدة على امتداد أحقاب زمنية، تشمل كل محتاج قريبا سواء أم غريبا .
ومنهم من ينطلق بفضائل الصدقة حسب مقولة رائجة ألا وهي (الأقربون أولى بالمعروف) فيعملون بها بحسب أهوائهم، علما أنها لم ترد إلا بمفاهيم أخرى أهمها قرب الجوار وقرب الأهل إلى اعتراف بصلة الرّحم التي تشد الأسرة بعائلة واحدة ..
السؤال هنا هل يتم الشكر والدعاء والإكتفاء من الطرف الآخر ؟؟!
- جذبتني عادات كنا قد ألفناها عن أهالينا وهي توزيع خبز، أو لحم، أو أموال في مناسبات الفرح أو الحزن، وهي عادة مستحبة قديما وربما مازالت ليومنا هذا، فتوزيع قطعة اللحم الصغيرة المطبوخة داخل كل رغيف خبز على جميع الحضور المتوافد للحزن أو الفرح كانت مبادرة تشمل كافة الموجودين، ولكن أحيانا تخذل صاحب المناسبة، بعض الحسابات والتي كان يظن أنه مقدور عليها .. فيكون الحضور أكثر عددا وهنا تكون الصّدمة !!
هنا يعود ليستجري حساباته من جديد فالظّرف يفرض عليه بعض التغيير ليتمكن من استقبال الغريب قبل القريب الذي يعتبره كَنفسه ..
إن حكاية توزيع " اللحم في الرّغيف" جعلتنا نتأكد من بعض المقربين ممّن غلبهم اللّؤم على عدم الإعتراف بالغرباء المحتاجين !!
فهذا لايتناسب طرداً مع المقربين الذين هم أولى بالمعروف بحسب مفهومنا للموروث ..
في حكاية صاحب المناسبة الذي فوجئ بضخامة عدد الحضور، فما كان منه إلا أن يوزّع الحصص للغرباء الذين توافدوا من بعيد لمشاركته مناسبة الفرح وعندما لم يكفِ اللّحم للبقية المتواجدة من الأهل فقد لفَّ الخبز لهم فارغا لمن يثق به من الأهل والأقارب، فصمت البعض مقدرا الظرف يمثل أمام الجمهرة بأكل الرغيف الفارغ بشكل عادي لئلا يشعر به الضيوف الأغراب، والبعض الآخر استفزه ماقام به المضيف ليقوم أحدهم متملقا مناديا بصوت عال سمعه كل الحضور، يا فلان إن "رغيف الخبز فارغا ".." مافيه لحم" ؟!!!
وهنا ينصدم صاحب المناسبة قائلاً له بحزن شديد عفواً عفواً حقك عليّ ظننت أنك من أهلي ؟؟؟
هكذا نحن لانقدر اختيار الواقع .. ربما الظروف تبقى هي الأقوى منا ولكننا يجب علينا اختيار الدقة في حساباتنا وبالتالي انتقاء من يؤتمن على أسرارنا لنتجنب مايصدمنا ويعزز البغيضة في نفوسنا (فالطاعن بأهله كالطاعن بنفسه) !!
والطاعن بإنسانيته كالطاعن بوجوده ..
صاحب المناسبة وزع أرغفة الخبز للجميع ولكنه وزعها ناقصة مرغما لبعض من أئتمنهم نتيجة سوء التقدير في مفاجأة ظرف صادم !!
إنه لفرق كبير بين ضيف حاتم الطائي والغريب وبين ضيف صاحب المناسبة
0 تعليقات