وساطة بغداد الوهمية بين واشنطن والرياض وطهران

مشاهدات



د. ماجد السامرائي


لا بد قبل الحديث عن الوسيط من قيام طهران بخطوات إعادة ثقة جدّية تجاه السعودية وبلدان الخليج تشير فيها بصورة علنية صريحة وفعلية إلى تخليها المطلق عن سياساتها ومخططاتها وبرامجها العدوانية.

حملة إعلامية مبرمجة في بغداد لتصنيع دور الوساطة المفترضة

ليس جديداً القول إن ما يحصل من تغيير في رئاسات الولايات المتحدة لا يؤدي إلى انقلابات جوهرية وانعطافات دراماتيكية في السياسات، مثلما يحصل في بلدان العالم الثالث وعالمنا العربي منه. لكن حتى الهوامش الناتجة عن مزاج الرئيس الأميركي الجديد وانتمائه الحزبي في السياسة الخارجية لها آثارها وانعكاساتها المهمة على دول العالم أجمع، وهو ما يعكس ثقل الولايات المتحدة في العالم.

كذلك يتكرر الحديث عن أولويات الرئيس جو بايدن في شؤون الولايات المتحدة الداخلية وسبل الإنقاذ السريعة لتداعيات كورونا والصدع الاجتماعي الذي خلفته جريمة المتطرفين باقتحام مبنى الكونغرس، ووضع معالجات لما يسمى بالأزمة الاقتصادية الداخلية وعلاقة هذا الملف المهم بسياسة واشنطن تجاه الصين، المُهدّد الأول لمكانة الولايات المتحدة الآن وفي الأعوام القليلة المقبلة.

خطوات المصالحة بين الرياض وطهران تسبقها متطلبات وحيثيات ومناخ غير متوفرة إلى حد اللحظة في بغداد

مراجعة سريعة لمواقف الزعامات الشيعية الحاكمة في العراق تجاه واشنطن تشير إلى تذبذبهم وفقاً لما تمليه سياسات طهران. لقد اعتقدوا أنهم أذكياء بمراوغة المحتل الأميركي الذي جاء بهم إلى الحكم في البداية، وإخفاء الولاء المطلق لحكام طهران، دون التمييز بين رئيس أميركي جمهوري أو ديمقراطي طالما استمرت الرعاية لهم خلال فترة الاحتلال (2003 – 2011) وبعدها. غابت الاستقلالية عن تلك الأحزاب وهي الشرط الوطني الأول لمن يريد تحمل مسؤولية الحكم.

لا يستغرب انعكاس الترقب الإيراني بعد تولي جو بايدن إدارة البيت الأبيض على أحزاب الحكم في بغداد، فغابت التصريحات النارية التي رافقت إدارة ترامب. إلا أن الإشارات الأولى من طاقم الإدارة الأميركية الجديدة خذلت حكام طهران وأعوانهم الذين توقعوا رفضاً سريعاً من الإدارة الجديدة لسياسات ترامب السابقة في العقوبات والنووي، التي احتفظ بها بايدن كقاعدة مفيدة لبناء السياسات الجديدة تجاه طهران التي تمارس لعبة الخداع في الاحتفاظ بتحريك أدواتها السياسية للإيهام بأنها حمامة سلام مع الولايات المتحدة ودول المنطقة، وبأن طهران تسعى إلى حوار مع السعودية.

هناك مناخ تهدئة في المنطقة تشتغل وفقه السعودية ودول الخليج بمهارة عالية ونفس طويل في اتجاهات متعددة، ومنها طهران المعروفة بخداعها، فهي تدّعي في الإعلام وعبر وكلائها أنها تريد الحوار مع الرياض وبعض دول الخليج، لكنها بذات الوقت ترسل صواريخها إلى الأراضي السعودية عبر الحوثيين، وتنتظر بقلق ملامح سياسة بايدن تجاهها وتجاه المنطقة ومن بينها العراق، حيث أمرت طهران وكلاءها بالتعاطي مع سيناريو مُضخم لمبادرات الحوار والتطبيع السعودي مع إيران والتطوع لدور الوسيط.

العقبة الجديدة الأولى الصادمة لطهران اليوم هي احتمال طلب إدارة بايدن شروطاً لعودة مفاوضات النووي، ومن بينها إدخال السعودية وبعض دول الخليج وإسرائيل كأطراف جديدة في الحوار المرتقب، الذي سيشمل الصواريخ الباليستية والدور التخريبي لطهران في المنطقة وبينها العراق. هذا يضيف صدمة جديدة للآمال الوردية الإيرانية باستعادة مناخ العلاقات التي سادت خلال ولاية أوباما، وأن أول تصريح لوزير الخارجية الأميركي الجديد أنتوني بلينكن تحدث فيه عن شركاء في المنطقة وليسوا فقط حلفاء.

على حكام بغداد أولاً وقبل الحديث عن أدوار دبلوماسية خارجية، المطالبة الجدّية والمعلنة واتخاذ الإجراءات العملية لإنهاء النفوذ الإيراني والنفوذ الأميركي في العراق

ظهرت علامات مسرح سيناريو الوساطة الوهمية في بغداد على شكل رسائل إعلامية بمعزل عن حكومة الكاظمي الذي اكتفى بالتصريح بأن زيارته للسعودية ما زالت قائمة، بينما هناك نشاط إعلامي غير رسمي مدفوع من قبل بعض القيادات السياسية للترويج ولتضخيم قصة الحوار بين طهران والرياض من جهة، وبينها وبين واشنطن من جهة أخرى.

التنظيرات للسيناريو المتوقع ترسم بلغة غير معهودة على مسرح المنطقة المغادر للتوترات والمُبشر بالتفاوض بين كل من طهران وواشنطن، وبينها وبين بغداد وكذلك بين العاصمتين طهران والرياض. والأكثر دراماتيكية في هذا السيناريو المبالغ به والأقرب إلى خداع العراقيين منه إلى انتظار السلام والاستقرار الذي يريده الجميع، منح بعض الزعامات السياسية المشكوك في نزاهتها مثل هذا الدور المهم.

هل يتوقع مثل هذا الدور الكبير المفترض في ما تسمى الوساطة من أركان النظام السياسي في بغداد؟ ولا نقول حكومة الكاظمي التنفيذية التي قد يرغب فيها وقد تناسبه وتناسب الرئيس برهم صالح واللذين لا يحملان العداء لبلدان الخليج، مثلما عليه الآخرون من السياسيين الشيعة الحكام، ويحتفظان بصداقة لا بأس بها. لكن الكاظمي غارق في مشكلات الأمن والاقتصاد والإرهاب والميليشيات التي تنفذ مخططاً أكبر من قدراته، وصالح يحتاج إلى تفويض إيراني لهذه المهمة التي ينافسه عليها آخرون يبحثون عن صناعة دور لهم.

النظام السياسي في بغداد غير مؤهل لمثل دور الوساطة هذه، إن توفرت عناصره ومبرراته وجدواه من قبل جميع الأطراف بما فيها طهران التي ما زالت تحرك أذرعها في العراق واليمن لإثارة الفوضى وقتل الأبرياء وزعزعة الاستقرار. وهذا ما يبعد احتمالية دور الوساطة.

هناك حملة إعلامية مبرمجة في بغداد لتصنيع دور الوساطة المفترضة يتولاها كتاب ومعلقون معروفون باشتغالهم موظفين لدى بعض قادة أحزاب الإسلام الشيعي، يتحدثون بمبالغة مُسرفة عن دور مزعوم لزعامات سياسية للقيام بوساطة إيرانية – سعودية – أميركية، إلى درجة ادعاء بعض المعممين صراحة بأن ذلك جاء بتكليف ورعاية الولي الفقيه في طهران.

هدف الحملة بالدرجة الأولى محلي انتخابي لمسح الماضي الأسود لزعامات تركت آثاراً مؤلمة لدى الشعب العراقي خصوصاً من العرب السنة. كما افترضت تلك الحملة توفر مؤهلات للوسيط استناداً إلى موروث المنصب الرسمي الذي يتيح العلاقات مع أعلى حلقات المناصب الرسمية في واشنطن، وليس مع الرياض، حيث يمتلئ أرشيفهم بمسلسل الكراهية والحقد الطائفي. أما عند البعض الآخر فإن الهدف من الاستعداد لدور الوساطة المفترضة، أو دعم الوساطة القطرية، فهو توجيه رسائل إلى طهران بأن علاقتهم الطيبة بدول الخليج حان وقت استثمارها لصالح إيران عن طريقهم.

الزعامات الشيعية الحاكمة في العراق عتقدوا أنهم أذكياء بمراوغة المحتل الأميركي الذي جاء بهم إلى الحكم في البداية، وإخفاء الولاء المطلق لحكام طهران

وعلى افتراض وجود أجواء لمقدمات تهدئة في المنطقة، لا بد قبل الحديث عن الوسيط والمكان والزمان من قيام طهران بخطوات إعادة ثقة جدّية تجاه السعودية وبلدان الخليج الأخرى، تشير فيها بصورة علنية صريحة وفعلية إلى تخليها المطلق عن سياساتها ومخططاتها وبرامجها العدوانية المسلحة، خصوصاً في اليمن من قبل الحوثيين، وأن تتوقف عن استعراضاتها العسكرية في الخليج واستعراض متانة وكلائها في العراق. أمام طهران طريق طويل لكي تتأهل للحوار أو تطبيع العلاقات مع الرياض وبلدان الخليج.

خطوات المصالحة بين الرياض وطهران تسبقها متطلبات وحيثيات ومناخ غير متوفرة إلى حد اللحظة في بغداد. ثم أليست هناك شروط للوسيط لكي يُقبل من جميع الأطراف في مقدمتها المقدرة والمكانة والثقة والاستقلالية قبل استحضار مكانة بغداد الجيوسياسية التي تحول سياسيوها إلى تابع لنظام طهران ورأس حربة في الخاصرة السعودية والخليجية؟ على حكام بغداد أولاً وقبل الحديث عن أدوار دبلوماسية خارجية، المطالبة الجدّية والمعلنة واتخاذ الإجراءات العملية لإنهاء النفوذ الإيراني والنفوذ الأميركي في العراق.

كاتب عراقي

إرسال تعليق

0 تعليقات