العشوائيات في العراق قدر ضغط اجتماعي على وشك الانفجار

مشاهدات



د. باهرة الشيخلي


ظاهرة العشوائيات أصبحت شأنها شأن الظواهر الأخرى التي استولدتها دولة ميليشيات باتت مهيمنة على الحياة العراقية.

معاناة مستمرة

أعاد تصريح أدلى به الأسبوع الماضي الخبير الاقتصادي حيدر عبدالله الحديث عن العشوائيات في العراق إلى الواجهة مجدداً، إذ أكد أن عدد المواطنين الذين يعيشون في العشوائيات في العراق يقدر بأكثر من سبعة ملايين مواطن، بعد أن كان ثلاثة ملايين ونصف المليون سنة 2016 في آخر إحصائية لوزارة التخطيط.

ويعكس هذا التصريح أن العشوائيات في العراق كارثة سكانية وأنها تتنامى بشكل متسارع، منذرة بالاتساع سنة بعد أخرى.

وهذه المشكلة ليست جديدة في العراق، فقد تفاقمت إبان العهد الملكي، الذي أنهاه انقلاب 14 يوليو 1958 مؤسساً العهد الجمهوري، الذي وضع معالجات ارتجالية للمشكلة دفعت العاصمة بغداد ثمنها الأكبر. لكن تلك المعالجات، على سوئها، نجحت في الحد من هذه المشكلة وتحجيمها، غير أن عشوائيات ما بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003 لا تشبه تلك الأولى، لأنها أكبر حجماً وأكثر تناثراً من سابقاتها.

ارتبط ملف السكن في المناطق العشوائية إثر الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين سنة 2003 بالفوضى وانهيار المؤسسات الحكومية وتصدع هيبة الدولة، ما سمح للملايين من الأسر الفقيرة بالتجاوز على الأراضي المتروكة

وأصبحت ظاهرة العشوائيات من مصطلحات ما بعد 2003، شأنها شأن الظواهر الأخرى التي استولدتها دولة ميليشيات باتت مهيمنة على الحياة العراقية إذ خصص البعض ممّن جلسوا على كرسي رئاسة الحكومة قطعاً سكنية لمؤيديهم ومريديهم، وكانت في الحقيقة إقطاعيات كبرى، مثلما استحوذوا هم ومسؤولو الحكومات المتعاقبة على عقارات الدولة، بل إن رؤساء الأحزاب الدينية وميليشياتها لم يكتفوا باغتصاب منازل العراقيين، وإنما أقاموا إقطاعيات خاصة شبيهة بالمستعمرات، الجادرية مثلاً.

وتشكل قضية العشوائيات معضلة من تداعياتها الفقر والمرض وانعدام الخدمات، بل وانعدام شروط الحياة. ولكي تعرف الحجم المتزايد للعشوائيات في بلاد الرافدين، عليك أن تعلم أن معدل السرقات الحكومية -الفساد السياسي وما يتفرع عنه من ضروب النهب المالي والخراب الإداري- في حالة صعود. إنه الجوع النفسي الشبيه بالوباء الذي يسكن نفوس حكام المستوطنة الخضراء الذين أوصلوا العراق إلى الهاوية وجعلوه دولة متهاوية.

واتفق مؤرخون وباحثون ومسؤولون سابقون على أن أسباب نشوء العشوائيات تعود إلى تساهل السلطات في محاسبة المخالفين والمتجاوزين بحجة حقوق الإنسان، أيضا الفقر والعوز والبطالة التي دفعت سكان الريف إلى الهجرة للمدن حيث لم يجدوا سكنا يؤويهم، والأهم من ذلك كله ضعف تطبيق الدولة للقانون بخاصة بعد الاحتلال حيث سيطرت القوى المسلحة على مقاليد الدولة، منوهين إلى أن مخاطر العشوائيات لا حدود لها.

محسن حسين: الذين جاؤوا إلى بغداد والمدن الأخرى هجروا أراضيهم إلى المجهول محسن حسين: الذين جاؤوا إلى بغداد والمدن الأخرى هجروا أراضيهم إلى المجهول

ويقول الباحث والصحافي العراقي محسن حسين، الذي تابع خلال عمله الصّحفي الطويل المعالجات التي وضعت في العهد الجمهوري لهذه المشكلة، إنه “لا يوجد تاريخ مؤكد لنشوء العشوائيات، لكن من المؤكد أن الذين جاءوا إلى بغداد والمدن الأخرى هجروا أراضيهم إلى المجهول بسبب عبودية الإقطاع بحثا عن واقع أفضل”.

ويستدرك “لكن الهجرة وتوسع العشوائيات انتشرا بعد سنة 2003 إذ ترك الكثير من الفلاحين أراضيهم للبحث عن عمل في المدن، بعد تدهور الزراعة بأنواعها، لكنهم واجهوا البطالة بسبب تدهور الصناعة واعتماد البلاد على استيراد المنتجات الزراعية والصناعية من الخارج”.

أما سمير الشيخلي الذي شغل سابقاً موقعي أمين بغداد ووزير الداخلية، والذي نجح في تحويل إحدى أكبر العشوائيات في بغداد إلى مدينة عصرية، هي مدينة الثورة، يعيد نشأة العشوائيات إلى” سبب سياسي قاده صالح جبر، أحد المسؤولين الشيعة في العهد الملكي، في بداية الخمسينات، لخلق نوع من التوازن الطائفي في بغداد، التي كانت تسكنها غالبية سنية، فأسكن أبناء الجنوب الشيعة في منطقة الشاكرية (المنطقة الخضراء الآن)، وقسما في منطقة الكسرة قرب البلاط الملكي، ومنطقة خلف سدة ناظم باشا، وتمتد هذه العشوائيات من منطقة بغداد الجديدة إلى منطقة راغبة خاتون. كما أن هناك عشوائيات صغيرة ظهرت في مناطق الشعلة ونهر الخير، مع ملاحظة أن جميع هذه العشوائيات كانت تحيط بمراكز قيادة الدولة العراقية”.

ويقول الشيخلي إن “الحكومة العراقية، بعد يوليو 1968، وضعت خطة وطنية لمعالجة هذه العشوائيات عبر محاور متعددة، منها تمليك قسم من ساكني العشوائيات في الأراضي التي هي ضمن التصميم الأساسي لمدينة بغداد مناطق سكن، وقسم وزعت عليه شققاً سكنية”.

لكن المدير العام لإسالة الماء في بغداد سنة 1980، الذي شغل منصب الوكيل الفني لأمين بغداد حتى سنة 2000، عدنان جابرو، يرى أن “العشوائيات ظاهرة اجتماعية سلبية تصعب السيطرة عليها في معظم دول العالم، فهي تتمثل في قيام المواطنين بإنشاء مواقع سكنية خارج حدود المدن ومحيطها وخلافاً لمقاييس التصميم الأساسي كلها وبسرعة لا يمكن لسلطات المدينة السيطرة عليها أو تلبية متطلباتها من البنى التحتية”.

بغداد سمير الشيخلي: وراء نشأة العشوائيات رغبة في خلق توازن طائفي في بغداد

وبغداد مثال صارخ لبقية المدن في العراق من حيث نشوء العشوائيات وطبيعتها وأسباب نشوئها، حيث كان لمدينة بغداد في الستينات من القرن الماضي تصميم أساسي وضعته شركة “دوكسيادس” وتم تطويره في الثمانينات، وقد حدد حدود المدينة والمناطق السكنية والتجارية والسياحية فيها، لكن التصاميم الأساسية اخترقت بالكامل منذ قيام العهد الجمهوري سنة 1958 واستمرت حتى يومنا هذا بصفة تهدد هوية المدينة.

ونقلت وزارة التخطيط في العراق عن وزيرها خالد بتال النجم، الذي ترأس اجتماعاً للجنة القانونية التوجيهية العليا لمعالجة العشوائيات في العراق، وحضره مدير برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية في بغداد وائل الأشهب، قوله إن “هناك ثلاثة ملايين ونصف المليون إنسان يقطنون في هذه العشوائيات التي تجاوز عددها الأربعة آلاف عشوائية موجودة في محافظات العراق كلها، تحتوي على أكثر من 500 ألف وحدة سكنية”.

وإذا عدنا إلى تصريح الخبير الاقتصادي حيدر عبدالله، سنجد أن المشكلة تضاعفت منذ سنة 2016، مما ينذر بتفاقمها أكثر إذا تركت دون معالجات، وهي ستترك كذلك إذا قرأنا تصريح المتحدث باسم وزارة التخطيط عبدالزهرة الهنداوي القائل “وضعنا منذ عام 2015 خطة لمعالجة المشكلة، وكنا بحاجة ماسة إلى قانون برلماني لتأطير عملنا بغطاء قانوني، وفعلا ناقش البرلمان عام 2017 قانون العشوائيات، لكن تقاطع المصالح والأهواء السياسية حال دون إقراره حتى الآن، بعض الكتل السياسية تزايد في هذا الملف وتسعى لكسب سكان العشوائيات من دون أن تجد حلا لمشاكلهم”.

وفي تصريح الهنداوي نسبة كبيرة من الصحة، إذ يرى بعض المواطنين أن إصدار قانون يعالج مشكلة العشوائيات، في هذا الوقت الذي يسبق موعد الانتخابات النيابية، يعد تنافسا بين القوى السياسية لكسب أصوات الناخبين بالدرجة الأولى، ويثير الشكوك والريبة في أن الغرض من الوعود بإصدار القانون هو دعاية انتخابية مبكّرة، خصوصاً وأن بعض الأحزاب السياسية وزعت على الفقراء سندات تمليك لقطع أراض سكنية خلال ولاية رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، لأغراض انتخابية، ثم ظهر أن السندات كلها وهمية.

البعض ممّن جلسوا على كرسي رئاسة الحكومة خصصوا قطعاً سكنية لمؤيديهم ومريديهم، وكانت في الحقيقة إقطاعيات كبرى، مثلما استحوذوا هم ومسؤولو الحكومات المتعاقبة على عقارات الدولة

ويشجع إقرار قانون لمعالجة مشكلة العشوائيات دون ضوابط قانونية وتعليمات مشددة بعض المواطنين على تجاوزه واستغلاله لتحقيق مكاسب لا يستحقونها. والقانون الموضوع لهذا الغرض، بصورته الحالية، يعد تشجيعاً للتجاوز على أموال الدولة وحتى على الأموال الخاصة. ومثل هذه التشريعات يمكن أن تدفع المواطن إلى التطاول على القانون وعدم احترامه، فالقوانين السابقة المماثلة لمثل هذا القانون كانت تنص على عقوبة السجن للمخالفين، ومنها قانون رقم 548 المشرع عام 1979 في عهد الرئيس الراحل أحمد حسن البكر المتضمن تمليك المتجاوزين على أراضي الدولة بإنشاء دار سكنية عليها، بشرط أن يكون إنشاء الدار قد تمّ قبل تاريخ الأول من يناير 1979.

لقد ارتبط ملف السكن في المناطق العشوائية إثر الإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين سنة 2003 بالفوضى وانهيار المؤسسات الحكومية وتصدع هيبة الدولة، ما سمح للملايين من الأسر الفقيرة بالتجاوز على الأراضي المتروكة في أطراف المدن وبناء مساكن متواضعة بعضها من الصفيح للعيش فيها.

وأشارت التقديرات، في وقت سابق من سنة 2003، إلى حاجة البلاد إلى نحو 2.5 مليون وحدة سكنية للتغلب على أزمة السكن الخانقة، غير أن الحكومات العراقية المتعاقبة فشلت في بناء هذا العدد المطلوب من الوحدات السكنية، على الرغم من الموازنات الكبيرة للدولة بسبب ارتفاع أسعار النفط حينها، والتي أكل الفساد أغلبها، فهل ستستطيع أي حكومة تحقيق ذلك في ظل الانهيار الاقتصادي الذي ينتظر البلد وجائحة كورونا، التي زادت طين العراق بلة؟

كاتبة عراقية

إرسال تعليق

0 تعليقات