لهذه الأسباب.. الحزن هاجس العراقيين وعصير حياتهم ولا يفارقهم حتى في أفراحهم

مشاهدات



التوتر والحزن سمتان ترافقان العراقيين، بحسب استطلاع رأي أجرته مؤسسة غالوب الدولية (The Gallup Organization)، وأظهر أنهم ضمن أكثر 10 شعوب توترا وحزنا، حيث احتل العراق الصدارة للعام الخامس في مؤشر الشعوب، بسبب الاضطرابات التي تعيشها البلاد منذ عدة عقود.

ويرى باحثون عراقيون أن الحزن هاجس مصاحب للعراقيين، وهم ميالون إلى التوتر والحزن بسبب الظروف العصيبة التي مروا بها، خاصة في العصر الحديث حيث عانوا من ويلات الحروب وتبعاتها، وغياب العدالة الاجتماعية والسياسة التنموية الصحيحة التي تلبي حاجات المجتمع للنهوض بالواقع وتحسين جودة الحياة.

أسباب نفسية

يعلق رئيس الجمعية النفسية العراقية البروفيسور قاسم حسين صالح على ذلك بالقول إن العراقيين مهوسون بالتباهي بالهموم والأحزان، فما أن يبدأ أحدهم بالشكوى من هَم أو ضيق حتى يبادره الآخر، بل يقاطعه بالتأكيد على أنه أكثر حزنا منه، ويمضي مسترسلا يروي بألم أكثر ما حل به، وبدراما تصور للمقابل وكأن مصائب الدنيا وقعت كلها فوق رأسه.

ويقول صالح، إن "لحالتي التوتر والحزن أسبابا نفسية، ولعل العراق البلد الأكثر تعرضا للكوارث والحروب والفواجع والمحن، بدءا من الطوفان وصولا إلى ما هو عليه الآن، وأظن أن أول تراجيديا في العالم كانت في العراق، وهي تراجيديا جلجامش وصديقه أنكيدو، حيث دب الحزن في قلب جلجامش بسبب فقده لأنكيدو".

ويتساءل صالح "لماذا يدمر العراق من دون بلدان المنطقة ويصبح أهله بين قتيل ومهاجر ومهجر ويعيش في حياة بائسة وعمر متعوس، والجواب هو لأن الحزن فيه تحول نفسيا إلى عادة عبر أكثر من ألف سنة، وفي العصر الحديث فإن المسؤول الأول عن حزن العراقيين هو السلطة، والدليل أن الحزن لم يكن شائعا بعد إقامة النظام الجمهوري عام 1958، وكذا في عقد السبعينيات، بعدها عاد الحزن مع الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، ثم غزو الكويت عام 1990 ثم حرب الخليج مطلع عام 1991، والحصار الذي فرض على البلد ( 1990-2003)، ثم الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 وما تلا ذلك من أحداث".

ويتابع "هكذا استمرت الحال حتى انفجار مظاهراتهم في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019 التي دفعوا ثمنها دما غزيرا، وتتوالى الخيبات على مدار عقود من نظام استبدادي إلى فاسدين استفردوا بالسلطة والثروة، فهل بعد كل ذلك يسأل لماذا يشعر العراقيون بالتوتر والحزن؟".

وتقول مؤسسة غالوب -وهي من المؤسسات الرائدة عالميا في استطلاعات الرأي- إن هدف استطلاعها هو قياس مؤشر التجارب السلبية والإيجابية التي تتعرض لها الشعوب، والتي لا تعكسها ولا ترصدها المؤشرات الاقتصادية المعروفة مثل معدل النمو.

وتضيف المؤسسة نفسها أن نتائج الاستطلاع العالمي تقدم فكرة لصناع القرار في العالم عن الصحة النفسية لشعوبهم.

وجاء ترتيب أكثر شعوب العالم، التي تقول إنها تعرضت لمشاعر سلبية مثل التوتر والحزن، كالآتي: العراق ثم رواندا (49%)، فأفغانستان وتشاد ولبنان وسيراليون (48% لكل منها)، ثم غينيا (47%)، فتونس ثم إيران وتوغو (45%).

جزء من الشخصية

بدوره، يرى الباحث علي النشمي أن الحزن شيء والتوتر شيء آخر، الحزن حالة إنسانية طبيعة ناجمة عن طبيعة الحياة والنشاط الاقتصادي لكل بلد، أما التوتر فهو حالة متغيرة ومحددة ناجمة عن الظروف التي يعيشها العراق منذ سنوات طويلة، والتي جعلت الأمل في الحياة بعيدا وصعب المنال.

ويقول النشمي، إن "حالة التوتر أخذت ترمي بظلالها اليومية على شخصية المواطن العراقي، أما الحزن فهو جزء من الشخصية العراقية منذ آلاف السنين، بسبب تركيبة الثقافة العراقية كنتيجة للنشاط الاقتصادي لأن أرض العراق أرض فيها كل الخير، ولكن تأتي فجأة ظروف غير طبيعية تحكم كل شيء، وعلى سبيل المثال فيضان النهر في العراق يحدث في زمن الحصاد الوفير، بينما فيضان النيل يحدث في زمن رمي البذور، لذلك فإن فيضان النيل خير وفيضانات العراق نقمة. يفرح المصري بالفيضان، بينما يحزن العراقي".

وتفيد نتائج تقرير غالوب العالمي للمشاعر 2020″ (Gallup Global Emotions 2020) بأن 51% من العراقيين (ألف مشارك) قالوا إنهم يشعرون بالتوتر والغضب والحزن والقلق والألم النفسي، ليحتل الشعب العراقي المرتبة الأولى عالميا ضمن أكثر شعوب العالم التي تعاني من مشاعر سلبية.


غياب السياسات التنموية

من جهته، يرى الناشط المجتمعي سعيد ياسين موسى أن الشعب العراقي كان يأمل بتحسن نوعية الحياة بعد انتهاء عقود الحروب والحصار وتغيير نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عام 2003، وما تلاها من انتخابات وتصويت على الدستور، لكن الواقع أثبت العكس خاصة مع انتشار الإرهاب وتداعياته وغياب السياسة التنموية الصحيحة التي تلبي حاجات المجتمع للنهوض بالواقع وتحسين جودة الحياة.

يقول موسى إن "جودة الحياة بدأت بالتراجع يوما بعد آخر، بسبب ارتفاع بنسبة الأيتام والأرامل والضحايا والوفيات الناتجة عن الأمراض، خاصة أن جائحة كورونا أثبتت فشل السياسات العامة في الجوانب الصحية والاقتصادية والتنموية، وأظهرت جميع عيوب مؤسسات الدولة، حتى وصل الشعب العراقي إلى مرحلة فقدان الأمل في تحسين نوعية الحياة، حيث يأمل الشعب بنظام حكم رشيد وإقامة العدل وفرض سيادة القانون وإحقاق الحقوق، ولكن جميع هذه الملفات في تراجع، ناهيك عن تغول الفساد الذي أصبح دولة في ظل الدولة القائمة، وكأن دولة الظل هي التي تتحكم بحياة الناس، وكل هذه العوامل ساهمت بخلق حالة من التوتر والحزن لدى العراقيين".

الشعر والغناء

يقول الشاعر الغنائي العراقي مناضل التميمي إن الحزن صفة ملازمة عند غالبية العراقيين وتحديدا عند أغلب المبدعين من الفنانين والأدباء والشعراء، ذلك لكثرة مافقدوه من إخوة وأحبة وأصدقاء نتيجة الحروب، فصارت مسحة الحزن عبارة عن شجن دائم.

وتابع التميمي "ربما بسبب عصف وشحوب السنوات والظروف التي لم تنفك عنها الفاقة والعوز والظلم الذي طالهم جراء الحكام الدمويين، والأسطورة القديمة تقول إن مسحة الحزن هذا بدأت بموت أنكيدو وحزن جلجامش عليه فأصبحت علامة فارقة وماركة مسجلة عند أغلب السومريين ومناطق جنوب الأهوار، وأنا أعتقد أن غالبية العراقيين صار الحزن عندهم صفة متوارثة لدرجة الانتشاء وللتعبير عنه بطرق إبداعية جمة، منها الفن والأدب والشعر".

من جانبه، يقول الشاعر واثق الجلبي إن الحزن في العراق ارتبط ارتباط الطفل بأمه، ولأسباب كثيرة وعميقة، أهمها الاحتلالات التي مرت به عبر الزمن، حتى عصفت بأرضه وبيئته.

ورأى الجلبي، أن "الثقافات المتعددة التي رافقت تلك الاحتلالات، لا تزال تؤثر في حياة العراقي حتى في الفن والشعر والغناء، والأمثال العراقية، لأن كثرة النكسات أدت إلى تجذر الحزن داخل الذاكرة والعمق العراقي".

وقد صوّر الشاعر العراقي مظفر النواب كل هذه الأحزان والعذابات في إحدى قصائده التي يقول فيها:-

ما أظن أرضا رويت بالدم والشمس كأرض بلادي..

وما أظن حزنا كحزن الناس فيها..

ولكنها بلادي.. لا أبكي من القلب..

ولا أضحك من القلب..

ولا أموت من القلب.. إلا فيها


بغداد- موازين نيوز

إرسال تعليق

0 تعليقات