منقذ داغر
عند تفكيري بكتابة هذه الورقة كنت أهدف للتركيز على موضوع تآكل الطبقة الوسطى في العراق وتأثيراتها على تنامي النزعات والفكر الشعبوي الذي بات شائعاً ليس فقط على مواقع التواصل الاجتماعي بل بين السياسيين وكثير ممن يحسبون على فئة المثقفين . ومنذ أيام أرسطو،مروراً بماكس ڤيبر ووصولاً الى أيامنا هذه،كُتب الكثير عن المضار الإقتصادية والإجتماعية الكبيرة التي سيعاني منها أي مجتمع حيث تتآكل الطبقة الفاعلة منه والتي توفر صمام الأمان من الأزمات الإجتماعية من جهة والرافعة الإقتصادية والإبداعية من جهة أخرى وأقصد بها الطبقة الوسطى. لكن حين شرعت بالبحث عن الأرقام التي تستطيع تدعيم وتعزيز أفكاري وقع تحت يدي مجموعة من البيانات عن نسب توزيع الطبقات الإجتماعية المختلفة في العراق ، أقل ما يقال عنها أنها كارثية وتفسر كثير من الأزمات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي يعاني منها العراق.
إن الحراك والانتقال الاجتماعي بين الطبقات المختلفة هو أحد المظاهر الطبيعية للمجتمعات الحية. وقد درس كثير من علماء الإجتماع والسياسة مثل ماكس فيبر وكارل ماركس هذا الحراك الإجتماعي وآثاره على الإقتصاد والسياسة فضلاً عن المجتمع. كما أشار أرسطو قبل أكثر من 2500 سنة إلى الإشكالات التي تحدث بين طبقتي الأغنياء والفقراء وعدّ الطبقة الوسطى ، الطبقة المؤهلة للتوسط لحل هذه الإشكالات.
على الرغم من عدم وجود احصاءات دقيقة عن نسب الطبقات الإجتماعية المختلفة في العراق إلا أن الكتابات التاريخية المختلفة تؤشر إلى أن أكبر حراك إجتماعي وانتقال بين الطبقات في العراق قد حدث بعد إنقلاب 14 تموز 1958 وتأميم الأراضي الزراعية والذي أدى إلى تقليص حجم الطبقة الغنية والفقيرة وزيادة في حجم الطبقة المتوسطة.
ويشير حنا بطاطو Batatto في كتابه الموسوعي عن الطبقات الإجتماعية في العراق أن هناك حراك نسبي بين الطبقات الإجتماعية المختلفة في الأعوام 1921-1958 لكن هذا الحراك زاد من حيث الدخول والخروج للطبقات المختلفة نتيجة عوامل مختلفة كالكساد الكبير 1929 وسياسات توزيع الأراضي 1938 والحرب العالمية الثانية والهجرة الجماعية لليهود ثم تدفق أموال النفط عام 1952.
مع ذلك فإن الحراك الأكبر حصل بعد 1958 والذي شهد نمو كبير على ما يبدو في الطبقة الوسطى بالعراق ولغاية بداية الثمانينات من القرن الماضي.
إن مفهوم الطبقة الإجتماعية هو من المفاهيم الأساسية في علم الإجتماع. رغم ذلك فلا يوجد إتفاق كما يبدو على هذا المفهوم من جهة ولا على معايير تحديد كل طبقة من جهة أخرى. بشكل عام يمكن تعريف الطبقة الإجتماعية حسب موسوعة البريتانيكا بأنها مجموعة من الناس في المجتمع يمتلكون نفس الموقع الإجتماعي – الإقتصادي Socioeconomic Status .
مع ذلك فلاوجود لاتفاق، كما يبدو،بين المختصين على كيفية تعريف وتحديد مفهوم الطبقة الإجتماعية . إن التعريف الطبقي الإجتماعي الكلاسيكي المرتكز على آراء كارل ماركس وماكس فيبر والذي يعتمد المعيار الإقتصادي هو ما سيتم تبنيه في هذه الورقة وذلك لسببين رئيسين
إعتقادي أن الطبقة الإجتماعية هي في أساسها تكوين إقتصادي يشير إلى الموقع الإجتماعي للأفراد ويخلق تفاعلاً وعلاقات وشبكات اجتماعية متمايزة.
سهولة تمييز الطبقات على أساس إقتصادي مستوى الدخل هنا نظراً لتوفر إحصاءات ومسوحات مستمرة للدخل في العراق ومختلف دول العالم. ومع إدراكي لوجود معايير أخرى مقترحة لتحديد وتعريف الطبقات،الا أن معيار مستوى الدخل يبدو أكثر عملية لأغراض هذه الورقة.
إعتماداً على مسح الأسرة الدوري الذي يقوم به الجهاز المركزي للإحصاء في العراق خلال العقدين الماضيين يمكن ملاحظة التغيير الحاصل في النسب السكانية المنتمية لكل طبقة من الطبقات الثلاث في الشكل أدناه. والجدير بالذكر أن تعريف كل طبقة تم بناءً على مستوى دخلها اليومي ، حيث تم تقسيم الطبقات كالاتي :
الطبقة الفقيرة أو المعرضة للفقر : 2-5 دولار يومياً للفرد الواحد
الطبقة المتوسطة : 6-10 دولار يومياً للفرد الواحد
الطبقة الغنية : أكثر من 10 دولار يومياً للفرد الواحد
وقد اعتمدت في هذا التقسيم على المعايير الدولية التي تعتمدها المنظمات الدولية كالبنك الدولي واليونسيف والأسكوا. مع مراعاة سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار.
تغيرات دراماتيكية
نلاحظ من الشكل حصول تغيرات دراماتكية في الطبقات الإجتماعية الثــــــلاث في العراق. ففي الوقت الذي كانت فيه الطبقة الوسطى تمثل الأغلبية المطلقة لسكان العراق 61 بالمئة عام 2007 شهدت هذه الطبقة تراجعاً نسبياً كبيراً بخاصة في السنوات 2014-2020 بحيث باتت هذه الطبقة لا تمثل سوى 30 بالمئة عام 2020. في المقابل شهدت الطبقة الفقيرة والمعرضة للفقر تغيراً معكوساً مقارنة بالطبقة الوسطى.
فبعد أن كانت هذه الطبقة تمثل أقل من ربع العراقيين 22.8 بالمئة عام 2007 تضاعفت أكثر من مرتين ونصف خلال 13 عاماً لتبلغ 60 بالمئة تقريبا في تموز 2020 وبحسب تقديرات اليونسيف والبنك الدولي ، مع ملاحظة أن هذا الرقم قد أخذ بنظر الاعتبار التقديرات السلبية المحتملة لجائحة كورونا في العراق بحسب دراسة البنك الدولي.
كما أن نسبة العراقيين الذين تقع مستويات دخلهم ضمن الفئة العليا الغنية قد شهدت تغيراً سلبياً كبيراً هي الأخرى لتنخفض بأكثر من النصف وتصل إلى 10 بالمئة فقط من سكان العراق بعد أن كانت تشكل أكثر من 16 بالمئة عام 2007 ? بمعنى أن كل من الطبقتين الغنية والوسطى قد شهدتا خروجاً كبيراً منها باتجاه الأسفل مما جعل هرم الدخل يشهد تحولات غير صحية موضحة في الشكل2 . والمعلوم أنه،بعكس هرم السكان مثلاً،فكلما أقترب شكل مستويات الدخل من الشكل الهرمي المنتظم كلما زادت امكانات الاضطرابات الإجتماعية السياسية. كما ان أتساع حجم الطبقة الوسطى في الهرم مقابل تقلص الطبقتين الغنية والفقيرة يساعد على انتظام الحياة الاجتماعية وتحسن مستويات النمو الاقتصادي.
وطبقاً لتقديرات اليونسيف في تقريرها عن التأثيرات المحتملة لجائحة كورونا على مستويات الدخل في العراق فإن نسبة الفقر المدقع سترتفع 11.5 – 13.4 بالمئة هذه السنة لتصل إلى حدود 32 بالمئة مقارنة ب 20 بالمئة في عام 2018.
وهذا يعني دخول 4.2 مليون عراقي إلى مستوى تحت خط الفقر ليصبح مجموع العراقيين الذي يعيشون تحت هذا الخط حوالي 11.5 مليون شخص معظهم يعملون في القطاع الخاص أو عاطلين عن العمل. علماً أن مستويات الفقر في المحافظات العربية الشمالية وفي المحافظات الجنوبية أعلى من ذلك بكثير.
كما توقع ذات التقرير زيادة في نسبة من أسميهم بالمكافحين من أجل البقاء ، وهم الفئة التي في معظمها من العاملين في القطاعات غير المنتظمة والساعين بجد لتجنب الوقوع تحت مستوى خط الفقر ، ورغم معاناتهم من الفقر حالياً. هؤلاء ستصل نسبتهم إلى 30 بالمئة تقريباً من مجموع سكان العراق ، وفي بعض محافظات الشمال العربي والجنوب ستزيد نسبتهم عن 40 بالمئة .
إن هذا التآكل الشديد في حجم الطبقة الوسطى والمصحوب بهذا النمو الشديد في حجم الطبقة الفقيرة لابد من أن ترافقه جملة من المظاهر الإجتماعية والسياسية والثقافية التي تزيد من احتمالات الصراع الإجتماعي والسياسي فضلاً عن تقليصها لامكانيات الروافع الإقتصادية التي تؤدي إلى نهوض الإقتصاد الوطني ككل. فمثلاً يلاحظ تصاعد كبير في حدة الخطاب الشعبوي في العراق ، كما بات القادة الشعبويين يحظون بمقبولية من قطاعات مختلفة في المجتمع العراقي. وهذه الظاهرة ليست خاصة بالعراق ، ففي انتخابات 2001 في تايلند لاحظ باحثون علاقة وثيقة بين فوز الشعبويين وبين مستوى الفقر المطلق Absolute Poverty هناك ، من جانب آخر فإن استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسستي خلال السنوات السابقة شهدت انخفاضاً واضحاً في مدى قبول الآخر ترافق مع الزيادة الحاصلة في معدلات الفقر والإنخفاض الواضح في نسب الطبقة الوسطى شكل 3.
ولعل من الطبيعي إفتراض أن زيادة الفقر يؤدي إلى زيادة الشعور بالتهميش وبالتالي يزيد من احتمالات العنف. ففي بلد مثل العراق يمتلك مصادر ضخمة من الثروات الطبيعية،تزداد توقعات السكان لما ينبغي ان يحصلوا عليه،أو ما يعتبروه حقهم الإلهي في الثروة. هذا يرفع من مستوى التوقعات بين العراقيين ويجعلهم يقعون تحت تأثير ما يسمى بالحرمان النسبي relative deprivation . وهناك علاقة أرتباط إيجابية بين مستوى الشعور بالحرمان النسبي ومستوى عدم الرضا،وأحياناً العنف المتوقع. من هنا يمكننا فهم أسباب الانتفاضة revolt العراقية المستمرة منذ اكتوبر 2019 المصدر مقالي في الواشنطن بوست.
ولعل تفحص مستويات العنف اليومي في العراق توضح كيف أن العنف قد ازداد في شوارع العراق ومدنه خلال السنوات الماضية.
كما أن زيادة أعداد ونفوذ المجاميع المسلحة والعشائر المسلحة في العراق يعطي هو الآخر مؤشراً على تأثير تآكل دخول العراقيين على حياتهم بشكل عام، وزيادة مستوى شعورهم بالحرمان النسبي.وقبل سنيين روى لي صديق كيف أن ابن اخته اضطر للإنضمام إلى إحدى المجاميع المسلحة في العراق لأنه عاطل عن العمل!
الاستنتاجات
شهد العراق تغيراً واضحاً في هيكل الطبقات الإجتماعية في العراق خلال السنوات الماضية.
وعلى الرغم من الطفرة الكبيرة التي حصلت في انتاج النفط وعائداته خلال السنوات الخمس عشرة التي سبقت جائحة كورونا فإن تآكلاً واضحاً في الطبقة الوسطى العراقية قد حصل صاحبه طفرة كبيرة في مستويات الفقر. لقد كان للتأثير المركب للحرب ضد الإرهاب في العراق وهيمنة الأشباح الثلاثة،كما وصفها أنثوني كورزمان Anthony Cordesman المصدرعلى امكانات الدولة العراقية اقتصادياً و أمنياً وبيروقراطياً دور كبير في جعل عوائد النفط العراقي تتحول إلى نقمة مضاعفة بدلاً من أن تكون نعمة للتنمية والرفاه.
تقلص الطبقتين
إن هذا التأثير المركب لتقلص الطبقتين الغنية والوسطى والقفزة الكفيرة في نسبة من وقعوا في براثن الفقر،زاد من إحتمالات التصادم الإجتماعي والسياسي في بلد يعاني أساساً من هشاشة مؤسساته وقلة الثقة بقدراتها وأمكاناتها. لذا فأن من المتوقع حداً زيادة التوترات الإجتماعية والسياسية وحتى الأمنية في العراق خلال الأشهر القادمة. وليس من المستغرب رؤية الأنتفاضة الشعبية وقد أمتدت للمحافظات السنية والكردية. ومما قد يزيد الأمر سوءاً أن تأثيرات جائحة كورونا الأقتصادية والإجتماعية لم تصل ذروتها بعد،مما يعني أن العراق مازال في عملية هبوط حر ولم يبلغ القاع بعد!
لم تستطع حكومة العراق،وربما لاول مرة منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921من دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين وبقية من يتقاضون رواتب عامةpublic salaries والذين يزيدون عن 8 مليون عراقي باتوا يستنزفون كل الإيرادات العامةالنفطية وغير النفطية!! وإذا علمنا أن الغالبية الكبرى ممن تبقوا ضمن نطاق الطبقة الوسطى هم من موظفي الدولة،وأن تقديرات اليونسيفمصدر تشير الى زيادة متوقعة في اسعار المواد الغذائية قد تصل الى 20 بالمئة مما يستنزف دخول كثير من هؤلاء الموظفين،فعلينا توقع سقوط عدد أكبر من العراقيين في براثن الفقر.
أن مشكلة التنمية في العراق تثبت مرة أخرى،وكما ثبت في كثير من دول العالم الأخرى،أن الأقتصاد هو متغير تابع dependent variable للسياسة. بالتالي لا يمكننا توقع أي تحسن في مستوى النمو الأقتصادي مادامت السياسات البائسة في مجالات الحوكمة،والأمن،ومكافحة الفساد،والبيروقراطية،والعدالة الأجتماعية،والمشاركة السياسية لم تتحسن. بأختصار فأن العراق يحتاج لأنتفاضة سياسية-مؤسسية كي يتمكن من تصحيح أوضاعه الإجتماعية والأقتصادية.
0 تعليقات