القَولُ الفَصلُ في القَلبِ والعَقل

مشاهدات

 




علي الجنابي

 

حَدَّثني ذو الشَّيبةِ فقال:
لا ريبَ أنَّ أقبحَ أصنافِ الغباء هو الجزمُ بعجرفةٍ شَعواء بشأنِ خطبٍ كانَ الفقهاءُ قد تآلفوا وما تناكفوا بشأنهِ مع الأطباء، ثُمَّ يأتيَ مَن يظنُّ أنَّهُ قد أوتيَ جوامعُ العلمِ بسخاء ليحسمَ الأمرَ برُغاء على إسترخاء. بيد أنّيَ اليومَ سألجُ ذلكَ الصنفَ من أصنافِ الغباء وبثًغاء، لأجزمَ بشأن كينونةِ (القلبِ) وبينونةِ (العَقلِ) وحقيقةِ فهمِهما في عقيدةِ الإسلامِ السَمحاء، وسأُدَمْلِجُ عن بصيرةٍ برجاء لا عن عجرَفةٍ بغثاء مفهومَ (القَلبِ والعَقلِ) في المحَجَّةِ البيضاء، ولا تثريبَ أن تذرَ قلبَكَ يا جليس يظنُّ بعدها بقيلي هذا مايشاء. فقلتُ لهُ: أظنُّكَ يا شيبةَ العزِّ أردتَ القولَ (ان أذرَ عقلي يظنُّ بقيلك ما يشاء)، وأنّي لِما ستُدلي بهِ مُنصتٌ وبخلايا عقلٍ كائنةٍ وراء ناصيةٍ صمّاء، وكامنةٍ في "جمجمةٍ" حَوَتِ الدِّماغُ ولخلاياهُ كانت وعاءُ. فقالَ: كلّا جليس كلّا! بل تذرُ قلبَكَ يظنُّ بقيلي مايشاء، ولا شأنَ لي بعقلٍ مزعومٍ وراءَ ناصيةٍ لديكَ غبراء، ذاكَ أنّهُ لا أصلَ ولا فصلَ للفظةِ (العقل) في قراطيسِ الأولين السَّمراء، فأنصتْ لسَمَرنا هذا في تهي قعدةٍ في بيداء، وهلمَّ معيَ لنتصفَّح وريقاتِها بتؤدةٍ وبصفاء، فلفظُ (العقلِ) ما ذُكرَ قَطُّ في قرآنِ اللهِ ربِّنا ربِّ الأرضِ والسَّماء، ثُمَّ أما ترى أنَّكَ وَشِيجَةٌ من خلايا خلويةٍ من كيمياء، ولوما نفخةُ الرُّوحِ لمَا عَمَلَتِ خَلاياكَ بنماء، بل لتعفَّنَت جرّاءَ ركودٍ فوباءٍ بداء، وإنَما مَثلُ قلبِكَ وعقلِكَ كمثلِ الخلايا الخلويةِ والرُّوحِ بعطاء، فلا قيمةَ لخلايا المخِّ (العقل) إن لم يسطعْ عليهِ القلبُ بضياء، بل لا وجودَ للعقلِ اساساً والقلبُ هو المُسَوَّدُ فيما في أنحاءِ بدنِكَ والأرجاء. فقلتُ: لكنَّا لا نعقِلُ ولا نَعلمُ إلا بالعَقلِ يا ذا شَيبةٍ بيضاء؟ فقال: " لا نَعلمُ إلا بالعَقلِ"! تلكَ عبارةٌ خرقاء إن عنيتَ بها الجُمجُمةَ وما حَوَت من خلفها من دُهنٍ وأحشاء؟ فقلتُ: أجل، وذاكَ ما عنيتُ وذلكَ ما حسَمَهُ (الرَّنينُ والمفراسُ) لعلماءَ ولأطباء. فقالَ: ليسَ الأمرُ كما ذَهَبتَ أنتَ وما ألهبَ واشهبَ به الأطباء من ذوي سُتراتٍ بيضاء، وحسمُكمُ هذا إنَّما هو إفتراء وهو محضُ صدىً لهَباء، رُغمَ أنّهُ لا إثمَ على الأطباء فيما قالوا من آراء، لأنهمُ يسعونَ في مختبرهمُ رويداً رويداً لمزيدٍ من معارفَ برجاء، فهمُ قومُ علمٍ لا يكذبونَ ونجباء، ومازالوا ناظرينَ لقولٍ فصلٍ حاسمٍ بثراء، لكنِ الإثمُ إثمُكَ حينما ضربتَ صفحاً كلماتِ الذكرِ الحكيمِ بجفاء، فدعني أقدِّمُ لكَ إهداءً عن إهتداء وأَدَاءِ القَلبِ والعَقلِ في الأعضاء، وعن كُنهِهِما وخفاياهُما لغةً وشِرعَةُ وتِقنيةً بجَلاء. فأمّا معنى العَقل لغةً فهو في مَعاجمِها: [عقَلَ يَعقِلُ، عَقْلاً عُقُول، فهو عاقل، والمفعول معقول، وعقَلَ الدَّابَّةَ: ضَمَّ رُسْغَهَا إِلَى عَضُدِهَا وَرَبَطَهُمَا مَعاً بِالعِقَالِ لِتَبْقَى بَارِكَةً، وعَقَلَ خَصْمَهُ: لَوَى رِجْلَهُ عَلَى رِجْلِهِ وَأَوْقَعَهُ عَلَى الأَرْضِ، وعَقَلَ إِليهِ: لجأَ وتحصَّنَ. والعَقْلُ: القلب، والعَقْلُ: الدِّيَةُ، والعَقْلُ: الحصنُ، والعَقْلُ: الملجأُ، والعَقْلُ: الحِجْر، والمَعْقِلُ: المَلْجَأُ، وعَقيلَةُ: الكَريمَةُ المُخَدَّرَةُ. والجمع عُقولٌ. ومَعْقُولاً، وهو مصدر؛ قال سيبويه: هو صفة، وكان يقول إِن المصدرَ لا يأْتي على وزن مفعول البَتَّةَ، ويَتأَوَّل المَعْقُول فيقول: كأَنه (عُقِلَ له شيءٌ أَي حُبسَ عليه) عَقْلُه وأُيِّد وشُدِّد، قال: ويُسْتَغْنى بهذا عن المَفْعَل الذي يكون مصدراً؛ ويقال: ما فعلتُ هذا مُذْ عَقَلْتُ].
وإذاً فما (العقلُ) لغةً إلّا حمّالُ حبالٍ (أوامرَ) وعليهِ أن يبركَ ليربطَها (يعقِلَها) حيثُ يأمرُهُ سيّدُهُ في الخلاء، ولا سيِّدَ للمخِّ إلّا القلب يا جليسي يا مزَخرَفَ الكساء. ولا تنسَ يا جليس أنَّ ظنَّ العقلاء خيرٌ من يقينِ الجهلاء.
وأمّا العقلُ شِرعَةً فلقد جاءَ بصيغةٍ فِعليةٍ في قرآنٍ مُعجزٍ نَزَلَ منَ السَّماء: (عَقَلُوُهُ) (نَعْقِلُ) (يَعْقِلُها) على مرةٍ واحدةٍ. و(يَعْقِلُونَ) 22 مرة و(تَعْقِلُونَ) 24 مرة ولم يرِدْ لَفظُهُ أسماً البتَّة. بينما القلبُ جاءَ ذُكرَهُ في الذِّكرِ الحَكيم بصَريحِ لفظِ (القلب) 144مرة وبجلاء. وإنَّما مثلُ القَلبِ للعَقلِ كمثلِ سيِّدِ قبيلةٍ تبَعَهُ عبدُهُ في مضاربِها فترى السيِّدَ آمراً عبدَهُ؛ "أعقلْ حبالَ الخيمةِ في ذاكَ الفضاء ولا تَعقِلْها ههُنا في تهي حصباء"، فإن كانَ إِنْتِخابُ المُقَامِ صائباً إرتقى السَّيِّدُ بإباء وإنتقى العبدُ أنقى فضاء. وإن كانَ إِنْتِخابُ المُقَامِ خائباً أطَّ السَّيِّدُ بالشَّقاء ونطَّ العبدُ بإستياء.
والآن ما عليكَ يا جليس بعدَما علمتَ معنى الفعلَ (عَقَلَ) إلّا ان تُنزِّلَهُ بذا فهمٍ لغويٍّ دقيقٍ على تعابيرِ الآي الكريم فتفهَمَ آنئذٍ منزلةَ العبدِ (العقل) ومنزلةَ سيِّدِهِ (القلب) بذكاء، ثمَّ تعلمَ أنَّ القلبَ هو الأصلُ في كلِّ سَرّاءَ وهناء وهو المصلُ لكلِّ ضراءَ وجفاء. أوَلَم ترَ كيفَ غَرَفَتِ أفئدةُ العقلاء من حُججِ الرُّسلِ الجَليِّةِ والأنبياء وعرَفَتِ لكنها ما عَقِلَت (اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ) فإنحَرَفَت بعيداً عن مواضعِ السَّناء الى مواطئِ الإفتراء. "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون" لا يعقلونَ حِبالَهمُ حيثُ مواضعَ الحقِّ بثناء. وتأمَّلْ معيَ يا جليس بعد أن تتطّهرَ من ترّهاتِ ما في الصُّحفِ من آراء؛ (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) وليسَ أدمغةً ببطنِ جماجمَ صماء، (لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ولم يقلِ تَعْمَى الأمخاخُ التي تحتَ الغطاء، (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا) قُلُوبٌ وليسَ عقلاً ظاهراً أو (باطناً) في الخفاء، (ذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}. كَانَ لَهُ قَلْبٌ لا عَقلٌ. (نَطبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) ولم يطبعْ على رُؤوسِهمُ الجوفاء، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} وما حُصِّلَ في خلايا المخِّ من قواعدِ بياناتٍ غبراء. ولو كانَ العقلُ مصدرَ الأوامرَ لذي بياناتِ لوَسوَسَ الشَّيطانُ في الرأسِ ولمَا وَسوَسَ فِي صُدُورِ النَّاسِ بخبثٍ وبدَهاء. ثُمَّ لكَ أن تَستَنيرَ بما في حديثِ المصطفى من ضياء، إذ عَلَّمنا أنِ (إستَفتِ قَلبَكَ) وليسَ عقلكَ، (وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً..، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) وما قالَ "أَلَا وَهِيَ العَقلُ" لا بصريحِ حرفٍ ولا بتلميحٍ وإيماء. و(ما رَأيتُ مِن ناقِصَاتِ عَقْلٍ وَدينٍ) وما قالَ ناقِصاتِ قلبٍ ودينٍ لأنَّ قلوبَهنَّ تمامٌ لكنَّ نقصَها أن تعقِلَ حيثُ مواضعَ الرّضاء.
مهلاً جليس، فإنَّ أخي إبنَ عباس (رضي اللهُ عنهما) ينظُرُ إليَّ بإيحاء! لعلّيَ أوغلتُ بتنطُّعي في مضاربِ الغباء؟ قالَ حبرُ الأمَّة: " كلّا، ما أراهُ تنطُّعاً ولا تنطُّطاً على الطبِّ بغباء، بل أنّي (نلتُ العِلمَ بِلسانِ سَؤول وَ"قلبِ عَقول"). قد وصلت يا ابنَ عباس، لله دركَ يا ابنَ عباس فذلكَ هو زبدةُ الإفتاء، وقد أوجزتَ سردي كلَّهُ بكلمتينِ ببهاء، بيدَ أنَّ الآيةَ المباركةَ (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) تبدو يا أبن عباس وكأنَّها نَسفَت ما قد سَلَفَ من تبيانٍ لي بإقصاء؟ لا يا مُتنطّعُ بل حقيقُ أمرِها أنّها هيَ الداعِمةُ لما قد سَلَفَ من تبيانٍ بوفاء، ذاكَ أن القلبَ لمَّا يضادِدُ (فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) بنقاء، يُرسلُ الى المخِّ أوامرَ منكرٍ وفحشاءَ، لِيُذيعَ بها المخُ القابعُ وراءَ النَّاصيةِ بها الى جوارحِ البدنِ بإنكفاء، فأضحى المخُّ رسولَ كذبٍ على فِطْرَةِ اللهِ وخاطئاً في الإجراء، وباتت دَارَهُ لذاتِها (كَاذِبَةً خَاطِئَةً) نكراء، ومثلُ ذلكَ قولُ الحقِّ ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) فأيّهم ههُنا رّاضٍ؟ آالعيشةُ بذاتِها هي أم هو المؤمنُ الرّاضي بعيشةٍ علياء.
قلتً لذي شيبةٍ: لعلّكَ أبَنتَ وأبليتَ فأحسنتَ البلاء؟ قالَ: رُبَما ولعلَّ الأطباءَ يُذيعونَ علينا في قادمٍ قريبٍ كَشفاً جازماً مدَوِّياً أنَّ القلبَ هو قائدُ الأدراك المُستبدُّ والقائمُ بالأعباء، وما العقلُ إلّا رجلُ الظّلِّ ومُنسِّقٌ للأوامر بإمضاء، وحينئذِ سيضحكُ منّا (العَقلُ) وسيهتفُ فوق رؤوسِنا بإزدراء: "ما أنتمُ إلّا نَقوع غوغاءَ في ضوضاءَ إذ تنبذونَ صريحَ آياتِ السَّماء، وما أنا إلا قبصةُ دُهنٍ(سيم كارت) تختزنُ ما يبتغيهِ سيّدي القلبُ وتنسى ماهو يشاء، وما أنا إلّا ناطقٌ عن سيدي القلب وما اسمي إلّا مختصرُ كلمتينِ (ع.قل): (عنِ) (القَلب)، وإِن كُنتُم فِي شَكٍّ مِّمَّا أَبَنتُ إِلَيْكم فَاسْأَلوا (قلوبَ) الحَيارى في غُدُوٍّ، وأسْأَلوا افئدةُ السَّهارى بعدَ العَشاء. ثمَّ سيُولِّي (العقلُ) مغادراً بإستهزاء.

إرسال تعليق

0 تعليقات