تأثير تغيير نمط القيادة السياسية في البيت الأبيض على العلاقات الأمريكية الصينية؟

مشاهدات


 


الكاتب والباحث السياسي
الدكتور: أنمار نزار الدروبي


كان الصراع بين الشيوعية والإمبريالية صراعا أيديولوجيا بين نظام اشتراكي ونظام رأسمالي، وكانت الدول تدور في فلكيهما تبعا لطبيعة أنظمتها بما فرضته المصالح وما ترشّح عن السياسة العالمية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أو ما كان يترتب جرّاء الحرب الباردة بين القطبين والمتغيرات التي طرأت بسبب ثورات التحرر. ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما تمخّض عن تفكك الدول المنضوية تحت مظلته وانضمام بعضها للاتحاد الأوربي، إضافة لتساقط أنظمة راديكالية سمحت لنفسها بالاستقلال وفق منظور الحياد وعدم الانحياز، ومع التغيرات الكبيرة المتوالية التي عصفت بالشرق الأوسط منذ احتلال العراق في 2003 وتدميره من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وما تلي هذا الاحتلال من تداعيات ما يزال العالم يشهدها. خلال هذه الفترة كانت روسيا تعيد توازنها لتستعيد مكانتها في النظام الدولي، والصين تتهيأ كقوّة عالمية عظمى، عموما هذا طموح مُتاح أمام تخبط السياسة الأمريكية، فيما إذا تجاوزت الصين حدود أطماع الهيمنة الاستعمارية بفرض قوتهم لتحقيق منظومة تماسك دولية تلبي طموح الشعوب وتحقق الاستقرار في الشرق الأوسط بالتعاون مع دول القارات الثلاثة آسيا وأوربا وأفريقيا.
الحقيقة الجلية ان أكثر المفاهيم تداولا فيما يخص حقل العلاقات الأمريكية الصينية هو اصطلاح (الرؤية الأمريكية للعلاقات مع الصين وليس العكس). صحيح أن الصين دولة صناعية متقدمة تتراكم فيها عوامل القوة وأسبابها التي تؤهلها للنمو كقوة عالمية مؤثرة في النظام الدولي، لكنها في الوقت نفسه مقيدة ببعض المشاكل الداخلية، ومحاصرة بقوة إقليمية تنافسية، ناهيك عن أنها دولة اشتراكية واقتصادها قائم على الاشتراكية ذات الخصوصية الصينية. بالمقابل فقد طرأت تغيرات أساسية في نظرة الصين للمجتمع الدولي في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي بسبب التطورات الداخلية التي أحدثتها فيما يتعلق في هويتها الوطنية وثقافتها الاستراتيجية، ومصالحها الأمنية، بالإضافة إلى إعطاء الأولوية لتنمية اقتصادها الوطني. فعلى الرغم أن الصين تنطلق من أرث تاريخي وسياسي متميز عن باقي القوى السياسية العالمية في مدار النظام الدولي الجديد، لاسيما أنها تنتمي إلى مجتمع منظم يدعم نظرية هرمية السلطة وواجب طاعة المسؤولين، إلا أنها قامت بالابتعاد عن موقفها الثوري تجاه المجتمع الدولي من خلال إعادة تعريف اهتماماتها الأمنية، وقد عمل هذا التغيير على تركيزها على اهتمامات تعاونية تحافظ على الاستقرار والمشاركة في الاقتصاد السياسي العالمي من خلال المشاركة في المؤسسات الدولية المختلفة. ففي المجال الاقتصادي تعتبر الصين أكبر قوة اقتصادية في العالم، وتعد من الدول التي تشق طريقها نحو التطور، والثروة، والقوة وتقوم بإحداث تغييرات في الاقتصاد الدولي، وقد سجلت الصين أعلى معدل للنمو الاقتصادي منذ انضمامها لمنظمة التجارة العالمية فوصل ترتيب إجمالي الناتج المحلي الصيني في ذلك الوقت المرتبة الرابعة على مستوى العالم.
من هذا المنطلق فإن صانع القرار السياسي الأمريكي يعتبر العلاقات الأمريكية الصينية هى علاقات معقدة تتراوح بين التقارب حينا والتصارع حينا أخر ومرجع ذلك بالأساس اختلافات مصالح كل منهما عن الأخرى، فالولايات المتحدة تنظر إلى الصين على أنها قوة ناهضة لها دورها الإقليمي والعالمي بما يمكن أن يهدد مصالحها الحيوية وأمنها القومي، كما تنظر الصين إلى الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة ذات المصالح المتشعبة على مستوى العالم، وضرورة التوجه نحو عالم متعدد الأقطاب لا تكون فيه هيمنة أمريكية بل توازن بين القوى المختلفة.
وبناء على ما تقدم، كان مسار الاستراتيجية لصانع القرار السياسي الأمريكي في التعامل مع الصين وصعودها عالميا منذ بدايات التسعينيات يركز على محورين، الأول، مدى سرعة نمو القدرات الاقتصادية والعسكرية الصينية، والثاني، كيف يتوجب على العالم بصورة عامة والولايات المتحدة الأمريكية بصورة خاصة الرد والتفاعل مع هذا الصعود. من هنا، فقد تعاملت الإدارة الأمريكية بمناهج وسياسات مختلفة تجاه الصين، "عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى لم ترق الولايات المتحدة إلى مستوى ادعاءاتها لاسيما برنامج النقاط الأربعة عشر الذي تبناه الرئيس الأمريكي (ويلسون) حينما أعطت معاهدة فرساي التي تمخضت عن مؤتمر فرساي الذي عُقد بعد انتهاء الحرب عام 1919 شبه جزيرة شاندونج المنزوعة من ألمانيا إلى اليابان بدلا من إعادتها للصين. لكن إدارة الرئيس الأمريكي (روزفلت) قدمت للصين مساعدات غذائية ضخمة خلال المجاعة الكبرى فى أواخر العشرينات من الألفية السابقة، ودعمت الولايات المتحدة الحكومة الصينية بزعامة شيانج كاى شيك فى بسط سيطرتها من جديد فى حملتها ضد أمراء الحرب المحليين، فضلا عن الدعم الأمريكي للصين ضد اليابان فى المحيط الهادي خلال حرب المحيط الهادي وذلك من خلال إرسال معونات عسكرية ضخمة لمنطقة الحدبة سلسلة جبال الهيمالايا وسيشوان". (كتاب الدكتور خضير عباس: مستقبل العلاقات الأمريكية الصينية).
أما إدارة الرئيس (نيكسون) فكانت بحاجة للصين للضغط على فيتنام وإنهاء الحرب فى الهند الصينية، وبعد لقاءات سرية، قام ريتشارد نيكسون بزيارة تاريخية إلى الصين عام 1972 رافقه فيها هنري كيسنجر، واجتمع مع الرئيس ماوتسي تونج لإرساء أسس التفاهم بين الصين والولايات المتحدة. وقد ترتب على الزيارة أن أصدر الجانبان الأمريكي والصيني بيانا مشتركا عرف (بيان شنغهاي) وقد صرح الجانب الأمريكي فيه بأن السلام فى أسيا والعالم يتطلبان جهودا من أجل تخفيف التوتر القائم. (معتز سلامة: الصين والولايات المتحدة جوهر الخلاف: مجلة السياسة الدولية، العدد 126، 1996، ص 51-52).
وفي نهاية فترة رئاسة كارتر، هاجم رونالد ريجان خصمه لضعف موقفه تجاه الصين، مدعيا أنه سيوفر دفاعا أفضل عن تايوان. وبعد انتخابه، سعى إلى زيادة مبيعات الأسلحة إلى تايوان، مما جرّ عليه غضب الصين. واستمر الخلاف حتى تم التوقيع على البيان الثاني بين الصين والولايات المتحدة في يونيو 1982، وهو الذي ربط بشكل أساسي بين وعد أميركي بتخفيض شحنات الأسلحة إلى تايوان وتحقيق السلام والاستقرار فى مضيق تايوان. وظل هذا التعهد المشروط مصدرا للجدل حتى يومنا هذا.
وفي عهد الرئيس الأمريكي (جورج بوش الأب) ومن ثم الرئيس (بيل كلنتون) كان اتجاه الإدارة الأمريكية خلال تلك الحقبة، ترى أن الصين الشريك الاستراتيجي، باعتبار أن العلاقات الأمريكية الصينية قائمة على التعاون، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ترحب بالصعود السلمي للصين. وهذه تسمى (مدرسة الارتباط والتعاون مع الصين). وهناك رأي ثاني في الإدارة الأمريكية يرى أن صعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية عالمية سيؤدي إلى عدم الاستقرار في النظام الدولي، بشكل يتعدى المصالح القومية الأمريكية، وإن أصحاب هذا الاتجاه دعوا إلى الحذر من الصين وضرورة احتوائها قبل أن تحقق الصين طموحاتها الإقليمية والدولية بحسب رأيهم.
وفي عهد الرئيس ترمب شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين نوعا من القلق والحذر وتحديدا في سياسة ترمب التجارية، على سبيل المثال لا الحصر فرض تعريفات شاملة على استيراد السلع الصينية، وكذلك زيادة وتيرة عمليات حرية الملاحة، ومحاولة ترمب إرسال قطع بحرية أمريكية تصل إلى المياه الإقليمية المحيطة بالجزر الصناعية، بينما لم تدخل القطع البحرية الأمريكية هذه المناطق في عهد إدارة الرئيس أوباما.
 بعد إعلان فوز الرئيس جو بايدن بالانتخابات الأميركية، توقع الكثيرون أن يقدّم سياسةً أكثر استقرارا تجاه العالم. لكن مع تجاوز العام الأول لإدارته، أظهرت المؤشرات أن سياسته لم تختلف كثيرا عن نهج سلفه ترامب، وإنما تمثّل استمرارا لها. أول مؤشرات الاستمرارية والتشابه بين السياسة الخارجية لبايدن وترامب هو الخصومة والصراع مع القوى العظمى العالمية وعلى رأسها الصين، إذ لم تشهد سياسة الولايات المتحدة إزاء الصين أي تغير يذكر منذ تولي بايدن السلطة إلى الآن، وحافظت إدارته، وإلى حد بعيد، على سياسة سلفه ترامب، وتحدث بايدن بنفسه عن الخصومة الشديدة وتحديدا عندما أعلن إن إدارته ستعمل جاهدة على إنشاء تحالف الديمقراطيات اتجاه الأوتوقراطيات (بعد أيديولوجي في الخطاب). وعليه فورا عقد بايدن أول قمة للديمقراطية في ديسمبر من عام 2021. لهذا فإن المقدمات كانت تشير إلى أن النظام الدولي الذي أخذ بالتشكيل في طريقه إلى صدام، لكن هذا الصدام لم يكن معروف، سيما أن التنبؤات تشير إلى أن الصدام قد يكون ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها وشركائها من جانب، والجانب الثاني بين الصين في الدرجة الأولى وروسيا في الدرجة الثانية.








إرسال تعليق

0 تعليقات