سيناريو فاشل لانقلاب ميليشياوي ببغداد

مشاهدات



د. ماجد السامرائي


نتائج الاستعراض والسيناريو الركيك في المنطقة الخضراء ليست لصالح الميليشيات الولائية فقد انكشف حجمها الحقيقي كقوة سياسية وعسكرية معزولة عن الشعب أولا وعن باقي الفصائل السياسية الأخرى حتى داخل البيت الشيعي.

صدام عالي الإيقاع

الاجتياح الميليشياوي للمنطقة الخضراء الأربعاء 26 مايو آخر مشهد يعيشه العراقيون ضمن مسلسل التراجيديا الحزينة. فقد صدرت الأوامر العليا لفصائل ميليشياوية وخلال أقل من ساعتين من إلقاء القبض على قاسم مصلح أحد قادتهم للرد على القرار، انتشرت الدبابات في شوارع المنطقة الخضراء وحول مكتبي رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ورئيس لجنته التحقيقية الخاصة أحمد أبورغيف. ظاهر المشهد الهوليوودي الضغط على الكاظمي لإطلاق سراح المتهم مصلح، لكن بواطنه أكثر من ذلك بكثير.

مرّت ساعات الاجتياح ثقيلة على رؤوس المسؤولين الرسميين الثلاثة (رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة) لأنها كشفت هشاشة هذه الوظائف ومزّقت جميع بروتوكولات الوجاهة وادعاءات وجود دولة وحكومة قوية، لتطل الميليشيات برأسها من جديد بأنها القوة الخفية الزاحفة نحو الإعلان الرسمي إن تطلّب الأمر لحكمها وتحكّمها بشؤون البلاد.

ساعات الارتباك لم تغطها النداءات العاجلة للاجتماع والتشاور في كيفية إيجاد مخارج تحفظ ماء وجوه مُدعي هيبة الدولة وهيبة رؤسائها حيث بدت هابطة رتيبة، فلم يجرؤ أحدهم أن يطلق صوت الرفض الشجاع لهذه المهزلة، ويوقف مزايا الجاه والغنيمة ويعلن استقالته ويصبح ذا اعتبار في نظر شعب العراق، بل لجأوا في تكرار رتيب لتوظيف مآسي العراقيين لأغراض ذاتية عقيمة لتجديد تسلّطهم على رقاب الناس، وشاركهم في هذه الكوميديا السوداء بعض قادة الكتل الشيعية.

أكثر وصف لَحظي رثائي دقيق لردود فعل الرؤساء الثلاثة في بغداد هو إصابتهم بالصدمة والرعب في استحضار لهذه النظرية المشؤومة التي طبقها على شعب العراق مجرم الحرب وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد خلال الاجتياح والاحتلال، وهنأه على ذلك رئيس حزب الدعوة السابق إبراهيم الجعفري فأهداه سيف علي بن أبي طالب في صورة فاضحة مفيد استحضارها دائما تمثل العمالة وتزوير شعارات التشيّع وعناوين “المقدّس” وتحويلها إلى أوراق في دهاليز مقايضة شعب كامل بسلطة رخيصة لسرقة الأموال من أفواه أكثر من أربعمئة طفل يتيم عراقي.

انتشار الفصائل الميليشياوية بالمنطقة الخضراء بدا شكليا للضغط على رئيس الحكومة لإطلاق سراح موظف في جهة يفترض خضوعها للقائد العام للقوات المسلحة لحين إنجاز التحقيق معه وفق المادة “إرهاب أربعة” بعد شكاوى باتهامات قتل ناشطي ثورة أكتوبر وأبرزهم إيهاب الوزني. الوجه الثاني لاستعراض القوة وسيناريو الانقلاب الميليشياوي فيه رسائل سياسية وأمنية مباشرة وغير مباشرة أرادت الجهات الإيرانية العليا في طهران إيصالها عن طريق ميليشياتها إلى الكاظمي وبرهم صالح ومحمد الحلبوسي والشعب العراقي.

أول الرسائل، أن اجتياح المنطقة الخضراء عملية اختبار فني “تيست” استثمرت حادثة عرضية اعتقال قائد ميداني ميليشياوي متهم بجرائم قتل ناشطين ثوار، لفحص قدرات القيادات الوسطية الميدانية والأجهزة الإعلامية الولائية وجيوشها الإلكترونية في الأوقات الاستثنائية التي قد تحصل لاحقا، وردود فعل بعض الأطراف الشيعية التي تحوم حولها الشكوك بولائها المطلق لإيران. ورصد العراقيون الهبّة الاستثنائية الجنونية لموالي إيران في مواقع التواصل الاجتماعي لتنفيذ مستوى الإنذار “جيم” وفق تعبير العسكر.

ثانيا، العملية بمثابة إنذار للكاظمي بعدم مواصلة طريق اتهام وكشف تورط قيادات عليا في الميليشيات، هناك طرق لإبعاد الشكوك عن الميليشيات منها اتهام أفراد من داخل السجون متورطين بجرائم عادية كالقتل وغيره وإطلاق سراحهم ثم توجه إليهم اتهامات كالتي وجهت لقاسم مصلح ثم يعترفون على أسماء وعناوين داعشية مثلا.

ثالثا، لقد قطعت فصائل الميليشيات شوطا في بعد المسافة بينها وبين الخضوع لإمرة القائد العام للقوات المسلحة وهو يعرف هذه الحقيقة لا يحتاج مثل هذا الدرس الذي رغم قساوته على نفس الكاظمي ومؤيديه كالرئيس برهم صالح مثلا، أنهت من خلاله الميليشيات ازدواجية الولاء الرسمي والعقائدي، وفضحت نفسها وهي مفتخرة بأن ارتباطها الشكلي الرسمي هو لاستلام الرواتب والمخصصات الكبيرة الموضوعة بالميزانية العراقية.

مراجعة سريعة لميزانية عام 2021 تظهر أرقامها أن المخصص لنفقات الحشد الشعبي بلغ أكثر من 2.4 تريليون دينار، وهو ما يعادل مجموع موازنات وزارات العدل والخارجية والثقافة والموارد المائية والتخطيط والنقل، كما تزيد عن موازنة وزارة التربية ومحافظات نينوى وذي قار والنجف والديوانية مجتمعة، فيما لا تخصص لمحافظات مدمرة مثل نينوى ربع هذه المبالغ. بالإضافة إلى المليارات من الدولارات التي يحصل عليها الحشد من موارد المنافذ الحدودية وغيرها.

رابعا، تدرجت هيمنة الفصائل الميليشياوية الأمنية والسياسية منذ حكومة عادل عبدالمهدي سيء الصيت، حيث أصبحت تنافس القوات العسكرية والأمنية في قدرات التسليح والتجهيز، يتذكر العراقيون إعلان قيادة الحشد في عهد أبومهدي المهندس قبل مقتله عن امتلاكها قوة جوية بمختلف الأسلحة بينها طائرات مُسيّرة، فمن الطبيعي ألا تسمح للحكومة بالتحقيق مع أحد منتسبيها لأنها تمتلك محاكمها الخاصة وأمنها وقضاءها المستقل. أليست هي فعلا دولة الميليشيات!

خامسا، لم يعد مهما للقيادات الميليشياوية عدم احتضان مرجعية السيستاني لها ودعمها المعنوي أمام الناس لأنها أصبحت تعلن عن مرجعيتها الأولى لولي الفقيه علي خامنئي. هذا الموقف اللاوطني ينبغي على العراقيين الشيعة المخلصين استثماره لفضح العمالة والولاء للأجنبي.

التطور الخطير الذي تحاول أجهزة إعلام الحركات والأحزاب الشيعية جميعها القفز عليه هذه الأيام هو الانقسام والتناحر السياسي بين فصائل “المقاومة الإسلامية” الولائية وبين القوى الرافعة لشعارات الاعتدال، حيث تصل حدود الصدامات القريبة من الانفجار المسلح والذي يعبّر عنه بعضهم “الحرب الأهلية” أو بضياع الحكم الشيعي وكأن هذا الحكم إلهي جلب الخير للعراقيين فيجب الدفاع عنه وليس حكما جائرا فاسدا. فيما حقيقة الصراع الاختلاف على نسب النهب المالي ومن المتحكم بالمشهد السياسي في الانتخابات المقبلة، ولا علاقة لشعب العراق به.

نتائج هذا الاستعراض والسيناريو الركيك في المنطقة الخضراء ليست لصالح الميليشيات الولائية، فقد انكشف حجمها الحقيقي كقوة سياسية وعسكرية معزولة عن الشعب أولا وعن باقي الفصائل السياسية الأخرى حتى داخل البيت الشيعي، والحال كذلك لدى كل من الأكراد والسنة.

أفرز حدث المنطقة الخضراء مظاهر الانقسام داخل فصائل الميليشيات بعضها يحاول لملمة حاله للتخلي المبكر عن الجرائم المتواصلة بحق الشعب وشبابه، والآخر لكي يضع لنفسه موقعا انتهازيا جديدا قبل فوات الفرصة الجديدة في الانتخابات المقبلة.

للمرة الأولى يحصل علنا مثل هذا الصدام عالي الإيقاع بين رئيس وزراء مكلّف بمهمته من قبل قادة الأحزاب وبين الميليشيات، رغم جهود الكاظمي بالتستر على كثير من الحوادث التي لو يعلنها أمام الشعب لبرأ ذمته ونجا من النقد المتواصل على مهادنته للميليشيات.

الدعم الدولي في مناصرة الكاظمي يفترض أن يدفعه إلى خطوات جدّية لسحب اعترافه بالميليشيات لأنها خرجت على القانون بقوة السلاح، فماذا ينتظر بعد ذلك.

على المستوى الشعبي العراقي سجل هذا الحدث انتصارا مهما لثورة شباب العراق حيث كشف واحدا من أعتى المتهمين بقتل شباب أكتوبر بما يدلل على صدقية إعلاناتهم بأن الميليشيات هي أدوات قتلهم تحديدا منذ أكتوبر عام 2019.

الاجتياح الميليشياوي يضع مرجعية السيستاني أمام مسؤولية اعتبارية، ليس أمام مريديه إنما أمام الشعب العراقي بضرورة سحب غطاء فتوى الجهاد عن فصائل الحشد الشعبي بعد أن تورط أكثر قادتها بقتل المواطنين العراقيين.

ما صدر عن العتبة العباسية في إعادة بعض مقاطع نشرت عام 2017 للسيستاني حول منع استثمار النصر على داعش لأغراض سياسية ونفعية لا يرتقي إلى مستوى الرد على جرائم الفصائل الميليشياوية التورط بالدم العراقي.

سيناريو مرتبك نفذته الميليشيات في المنطقة الخضراء ينبغي على من يحب بلده العراق ممن بيديهم المسؤولية الباحثين حقيقة عن استعادته من اختطافه ألا ينتظروا موجات الفوضى المقبلة.

كاتب عراقي

إرسال تعليق

0 تعليقات