متاهة السيد أكس

مشاهدات




صبا مطر


شعر السيد " أكس" بالكثير بالامتنان والرضى للتطورات الأخيرة التي آلت إليها التكنولوجيا. لا يعرف كيف سابق الزمن نفسه، ولا يعرف كيف وجد أخيراً حسنةً يمكن استثمارها من التقدم التكنولوجي السائد في هذه الأيام. 

" هكذا تسير الأمور وعلى نحوٍ غير متوقع أحياناً"، همس لنفسه ببعض الرضى وهو يقرأ لائحة تفصيلية عن خصائص ومهام  المنتج الجديد. كان يؤمن بضرورة المعجزات، رغم نضب معينها في السنوات الأخيرة. إذ كم ذهبت ارواحٍ وقضتْ بانتظار حدوث معجزة ما.. شيء ما يمكنه قلب المعادلة لصالح البشر المهمشين والمتعبين على هذه الأرض. وها هو الأمر يتحقق، رغم تأخر قدومه، ورغم أن السيد " أكس" ما زال يناضل بما تبقى له من حفنة سنين قد لن يتمكن من إحصائها إذا ما خذله الجسد في لحظة لم تخُلق بعد!

" وأخيراً سأتمكن من حصد القليل من الراحة الذهنية واطفاء شعلة الأفكار المزعجة إلى أجلٍ أقرّه بنفسي. أني لمعجبٌ بما قدمه العلم من تقنية فصل الرأس عن الجسد بهدف الراحة الفكرية، ومن ثم تنصيبه بيسرٍ وسهولة في وقت لاحق. يالروعة الحياة وهي تمضي من دون غليانات فكرية وأفكار سوداء ولا رؤى قاتمة. سأنعم من الآن فصاعداً بنومٍ هانئ لا تؤرقه الكوابيس وما شابه". وهكذا خلع السيد " أكس" رأسه- مصدر قلقه الكبير- ووضعه في محلولٍ مبرّدٍ لونه أزرق داكن مائل إلى البنفسجي، مهمته ترطيب الأفكار وإبقائها على قيد الحياة. وقبل أن يفعل الخطوة الأخيرة كان قد هيئ كل التفاصيل، بما في ذلك خفت الإضاءة واسدال الستائر المعتمة وتنظيف غرفته من الفوضى التي غرق فيها لوقتٍ طويل. " طقوس عملية خلع الرأس تحتاج إلى جهدٍ عضلي وفكري في ذات الوقت! هل الأمر مزحة أم هي آخر الخطوات العملية لإطفاء شعلة التفكير اللاإرادي؟". 

لم يتبين صعوبة الخطوات الموضوعة من قبل شركة البرمجة " أم" التي فازت ببراءة اختراع " فصل الرؤوس عن الأجساد" في العام الفائت. في الحقيقة لم يتجرأ إلاّ القلة القليلة على خوض غمار هذه التجربة. فكما يعرف الجميع بأن هذه خطوة غير مسبوقة في غمار التكنولوجيا ومنحنيات التقدم العلمي المذهل والمنافس للخيال. 

" لا يوجد شيء اخسره إن أخضعتُ نفسي للتجربة.. أليست حياتنا كلها عبارة عن تجارب؟" همهم وهو يوقع عقد المتطوع مع الشركة المنتجة. 

رغم الضمانات الأكيدة والتجارب السليمة السابقة للشركة المنتجة، ورغم نيلها شهادة براءة الاختراع بنسبة خطأ مقدارها " صفر" بالمائة، إلاّ أن الناس لم تجرأُ بداية على الإقبال على هذا الأمر كما أسلفنا سابقاً.

" ما الذي تخشاه الناس؟ أن تمشي بلا رؤوس مثلاً؟ وماذا في ذلك؟ أنها لراحة حقيقية عندما يتخلى الإنسان عن مصدر المشاكل.. يبقى حياً مُعَّطل الحواس.. مغيباً عن الوحشية وغير مبالياً بكل شيء من حوله.. إنها حياة سخيفة في مجملها.. مع الرؤوس أو بدونها. مما لا شك فيه بأننا نحترق بسبب زوابع الأفكار التي توحشت في الآونة الأخيرة. لا شيء يستطيع تشذيبها أو تهدئتها غير أفعال محددة أقل ما يُقال عنها بأنها تحتاج إلى إرادة هائلة نفتقدها بالمجمل!". هكذا فكّر السيد " أكس" بينما هو ماضٍ بالتفكير ببنود العقد وبجاره الذي قتل زوجته الحامل لأنها طلبت منه دفع فاتورة الإيجار بعد أن أصبح عاطلاً عن العمل. 

كانت المخاوف تأكل رأسه كل ليلة وتمنعه من النوم الهانئ، رغم أنه يعيش لوحده. يفكر كثيراً بحياته السابقة والتي ازهقها بلا توقف في تأسيس عائلة... بيت وزوجة واولاد، تركوه بعد أن نبتت لهم أجنحة، أما زوجته فقد هربت مع عشيق أُشيع عنه بأنه دائم الابتسام والثرثرة. 

هو يعرف بأنه مصابٌ بداء الكآبة الحادة، وبداء التفكير المُكّثف، والذي لم يجدوا له اسماً علمياً في قاموس الأمراض بعد. 

اتصل مهندس من شركة " أم" وأخذ يشرح للسيد " أكس"- أكثر المرشحين قوة- عن تفاصيل التجربة وسلامة تنفيذها، وعن سهولة فصل الرأس وتركيبه من جديد. ناهيك عن الزيارة التي قام بها ذات المهندس وهو يقوم بالتجربة الفعلية أمام الزبون. كل شيء مضى بيسرٍ وسهولة غير متوقعين، ولم تعترض العملية أي مشاكل تقنية تُذكر. 

حتى أن الرأس المفصول والغارق في محلول سحري داكن اللون أخذ يغط في نومٍ عميق، كما استغرق الجسد بعدها في حالة استرخاء لا مثيل لها. 

" من المفروض أن تضبط ساعة المنبه إلى الفترة التي تود فيها استيقاظ الجسد وتركيب الرأس من جديد. هذا تفصيل مهم لا يجب الإغفال عنه بأي شكلٍ من الأشكال. ومن دون تدخل الزمن وفعله بايقاظك وايقاظ رأسك لن تتمكن من العودة من جديد." هذا ما قاله المهندس وشدد على كل حرفٍ فيه قبل أن يغادر بيت الرجل الذي سلمه العقد مختوماً بتوقيع القبول بكل اطمئنان وثقة.

" وأخيراً حانت اللحظة"... هتف السيد " أكس" منتشياً وهو يفرغ محتوى السائل الأزرق المخصص للتبريد من حوضٍ بلوري وضعه بالقرب من سريره الذي ينام عليه بمفرده كل ليلة. قرأ التعليمات مجدداً بكل انتباه لكيلا ينسى شيئاً منها. وفجأة راح يفكر بالكوابيس التي كانت تطارده كل ليلة، وبوجوه أولاده الهاربين منه وبجسد زوجته الخائنة وهي تضطجع بكامل السعادة تحت جسد عشيقها الدائم الابتسام. كل هؤلاء يطبقون على نومه يومياً وتجثم ذكراهم الثقيلة على تفاصيل أحلامه المزعجة. 

" لن يزورني أحد هذه الليلة.. سأنام قرير العين. بلا وجه العشيق ولا جسد الزوجة الخائنة ولا حتى وجوه أولادي الهاربين من أبيهم المصاب بداء الكآبة الحاد".

وهكذا خلع الرجل رأسه الساخن ووضعه في حوض البلور الأزرق. سمع- ولا يعرف كيف- بأن حرارة الرأس أحدثت اضطراباً وصوت قرقعة واضحة عندما اصطدمت ببرودة المحلول الأزرق الداكن. 

وقبل أن يستلقي مطمئناً على سريره البارد بفعل الوحدة تذكر بأنه نسى أهمُّ تفصيل في التجربة.. 

" الوقت!!! لقد نسيت توقيت الساعة... يا إلهي ما العمل؟؟؟". 

لم يحدث شيء محدد، غير استسلام السيد " أكس" إلى فراغٍ مذهل أمتّد أمامه. كانت زاوية الوقت مائلة إلى حد يظهر العطب واضحاً في تشكيل الصورة. جفّ السائل الأزرق في قلب البلور السحري وتوقف الوقت على حين غفلة، بينما بقيت عينا السيد " أكس" جاحظتان في إناء البلور الأثير، تراقبان سلسلة التطور التكنولوجي الذي توقف فجأة، وكله أمل بإعادة الرأس إلى الجسد من جديد!

إرسال تعليق

0 تعليقات