السياسة الأمريكية في العالم العربي بين الثابت والمتغير؟

مشاهدات




 

بقلم: الكاتب والباحث السياسي

الدكتور: أنمار نزار الدروبي


لا نريد التكهن بالنتائج فالسياسة علم معقد يستند إلى معادلات معقدة ومتغيرات وحسابات اختزال تاريخي وحتى فرضيات جبرية لا يفهمها غوغاء الحملات الانتخابية ومطبلين الحروب والدخلاء على علم السياسة الذين لا يجيدون غير استعراض عضلاتهم في القنوات الفضائية.

كان الصراع بين الشيوعية والإمبريالية صراعا أيديولوجيا بين نظام اشتراكي ونظام رأسمالي، وكانت الدول تدور في فلكيهما تبعا لطبيعة أنظمتها بما فرضته المصالح وما ترشّح عن السياسة العالمية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أو ما كان يترتب جرّاء الحرب الباردة بين القطبين والمتغيرات التي طرأت بسبب ثورات التحرر. ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما تمخّض عن تفكك الدول المنضوية تحت مظلته وانضمام بعضها للاتحاد الأوربي، إضافة لتساقط أنظمة راديكالية سمحت لنفسها بالاستقلال وفق منظور الحياد وعدم الانحياز، ومع التغيرات الكبيرة المتوالية التي عصفت بالشرق الأوسط والوطن العربي منذ احتلال العراق في 2003 وتدميره من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وما تلا هذا الاحتلال من تداعيات لازال العالم يشهدها.

الثابت في السياسة الأمريكية في العالم العربي:

إن كلفت ما تنفقه امريكا عسكريا يفوق أضعاف الاستفادة من النفط. بيد أن أمريكا حاليا أكبر منتج للبترول ولديها أكبر مخزون عالمي للطاقة، وأن هدف الولايات المتحدة الأمريكية ليس اقتصاديا في الوطن العربي بل الهدف استراتيجي لغرض الهيمنة الإمبريالية ومسك زمام أمور العالم، والوطن العربي هو قلب العالم النابض الذي تتشابك فيه جميع الشرايين والأوردة. وعليه الآتي:

1. أمريكا لا تحارب من أجل البترول ومن يضع هذا المبدأ مبررا للتواجد الأمريكي في المنطقة العربية فهو واهم، وإنما دين العرب هو الهدف لإسرائيل ويجب تدمير هذا الدين.

2. الحفاظ على المصالح الأمريكية ونفوذها الجيوسياسي على ساحة الشرق الأوسط والساحة العربية.

3. وجود إسرائيل وضمان أمنها والحفاظ على مصالحها. هذا لو كان الهدف هو منح اليهود وطن بحدود رمزية لا تتجاوز ما كانت عليه السامرة واليهودية قبل السبي البابلي، لكن مشاريع السياسة تختلف وتحقيقها يتطلب مراحل وأجندات لكل مرحلة بتفاصيل سيناريوهات مسبقة يتم تنفيذها أو تمثيلها على أرض الواقع.

4. التآمر على الأمة العربية عبر عملائها وأبرز عملاء أمريكا في المنطقة هما (تركيا وإيران).

5. منذ ثمانية وثلاثين عاما، أي منذ وصول الخميني ونحن نعيش حالة كوميدية من التهديد والوعيد بين صقور البيت الأبيض وبين طهران، ولكنها ليس أكثر من معارك كلامية ظلت حبيسة ضمن دائرة الإعلام فقط، بينما الضربات الحقيقية المدمرة كانت ومازالت ضد الدول العربية.

في الحقيقة أنه وبعد مضي أكثر من قرن على سقوط الاتحاد السوفيتي وتفرّد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم وتغيير موازين القوى في العالم. فإن العبث الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط عموما ومنطقتنا العربية بصورة خاصة نتيجة للسياسات الخاطئة للولايات المتحدة الأمريكية وما رافقه من تخبّط سياسي نتج عنه زلازل في عموم منطقتنا العربية وأدت الى دمار هائل يعجز العالم عن معالجة اضراره أو خلق معادلة جديدة تضفي إلى استقرار بديل عنه فهذا هو (الثابت في السياسة الأمريكية في العالم العربي). بدأ في أفغانستان ثم احتلال العراق بدون أي مبررات أو مسوغات قانونية دولية تسمح بذلك، وليس آخرا بإطلاق يد إيران في التوغل بأربع دول عربية (العراق، سوريا، لبنان، اليمن) من خلال ميليشياتها، إضافة إلى التدخلات التركية في ليبيا وسوريا. بسبب هذا العبث فشلت أمريكا في فرض هيمنتها حيث لم تستطيع سد الفراغ الجيوسياسي الذي حدث بزوال الدولة و النظام السياسي في هذه الدول وقد تمت تعبئة ذلك الفراغ بحشوه من القوى المتناقضة الذي تسبب تراكمها وتقاطعها مع ارتباطاتها الأيديولوجية بتداعيات جعلت من الساحة العربية بؤرة استقطاب لكل أجندات التطرف بمختلف اتجاهاتها الفكرية والطائفية، وتحولت الدول المذكورة آنفا الى ساحة صراع دولية من خلال حروب الوكالة باستثمار تناقض القوى وتجنيدها وتمويلها من أجل تحقيق أهداف تخدم استراتيجيات الدول الكبرى والإقليمية.  كما شهدنا ونشهد اليوم في سوريا وليبيا واليمن وربما سيشمل دول أخرى إذا لم يتوقف هذا العبث وتبدأ الولايات المتحدة الأمريكية بمراجعة سياستها وأخطائها وتصحيح مسارها بإعادة التوازن وفق رؤيا تنطلق من تلبية مطالب الشعوب مع الكف عن دعم الأنظمة الفاشية التي تلتحف بغطاء الدين (تركيا وإيران) بالسماح لها في ممارسة القمع ومصادرة الحريات وإحباط إرادة شعوبها.

كل شيء يحدث الآن أمام العين، لكن الأبصار تعمى عن ذلك، هذه هي سياسة أمريكا ومن لا يعلم خفاياها يسبح في برك الأوهام. وهنا سأذكر بعض الأمثلة البسيطة والواقعية للمؤامرة الأمريكية على الأمة:

لماذا لم يفتح ملف مجاهدي خلق في العراق؟؟

الجميع يعلم أن مجاهدي خلق في العراق باتوا تحت مظلة حماية القوات الأمريكية بعد عام 2003، حيث تم سحقهم وبتوجيه من إيران وأمام أنظار قوات التحالف الدولي في حينها لم يكن هناك ميليشيات، ثلاث معسكرات لمجاهدي خلق أبيدت بتعتيم أعلامي وبتنسيق استراتيجي كامل بين أمريكا وإيران. 

عملية اغتيال على عبد الله صالح وتصفيته جسديا: من قبل جهة استخبارية تقع من ضمن هذه المؤامرة الشيطانية الثلاثية (امريكا واسرائيل وإيران). ولماذا لا يسعى صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة إلى إنهاء أو القضاء على الإرهاب الحوثي في اليمن. وهذا كان واضح من خلال مراوغات المبعوث الدولي وتعزيز قوة الحوثي، لأنه كلما تستشعر امريكا الخطر على الحوثي، وإن القوات المسلحة السعودية على وشك سحق الحوثيين، تطلق عنان المفاوضات لكي تعيد تأهيلهم وتمويلهم.

المتغير في السياسة الأمريكية:

شواهد كثيرة وتداعيات متسارعة على مسرح الزيف السياسي تجعلنا نصل إلى حقيقة مهمة وهي، إن المعادلة السياسية القديمة لم تعد تصلح وتتماشى مع الوضع السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط بصورة عامة والمنطقة العربية تحديدا، حيث أن هذه المنطقة سوف تشهد الفترة القادمة أجندة وترتيبات، وفق معطيات جديدة بواقع القرار الذي ستفرضه البساطيل العسكرية وليست المعادلة السياسيّة.

ومن هذا المنطلق فإن صانع القرار السياسي في أمريكا يعلم جيدا أن المنطقة العربية لن تعيش بأمان، لأن الصراع لا يقف عند حدود إسرائيل والعرب؟ هنالك إيران الحالمة بالمجد الساساني، وتركيا التي تطمح الى استعادة عثمانيتها في عباءة عصريّة على قياسات الحداثة التي أسس نظامها كمال أتاتورك العلماني، وهنالك أيضا من يعتبر دويلات العرب سهما من غنائم الحرب العالمية الأولى والمعدلة بموجب سلسلة معاهدات واتفاقيات علنيّة وسريّة رغم شكليات الاستقلال الذي يعتّم على الحقيقة الاستعماري.

 

الفرضية الأولى للمتغير الأمريكي:

هل انتهى توظيف نظام الملالي ودوره الظلامي في حكم إيران؟ وكيف سيكون سيناريو إزالته لكي تبقى إيران في حضن الاستعمار العالمي وفق متطلبات المرحلة الجديدة مرحلة لمعادلة يتم نسجها وتنفيذها على ساحة الشرق الأوسط والوطن العربي؟ بعد أن منحت إيران امتياز العربدة على حساب العرب وضمان أمن اسرائيل وهذا كان من خلال الاتفاق النووي بين إيران والدول الخمسة الدائمة العضوية مع ألمانيا، بدليل أن الدول التي وقعت الاتفاق لم تعترض على التوغل الايراني في العراق وسوريا واليمن لأن ذلك ضمن الاتفاق.

ولمن يتقن علم حساب معادلات السياسة وفن تفكيك شفرات طلاسمها، سيجد النظام الإيراني على شاكلته المتخلفة زائدا لا يصلح استعماله في المرحلة القادمة، وإن إعادة تأهيل هذا النظام وترميمه ستكون أكثر كلفة من انتاج نظام جديد. إذا لم تبادر الدوائر التي أنتجته الى تنحيته سوف يكون معطلا ومعرقلا لمخططات المرحلة الجديدة.

الفرضية الثانية للمتغير الأمريكي:

  سيشهد العالم فصلا دراماتيكيّا ساخنا على مسرح الشرق الأوسط، والوطن العربي خصوصا وسوف يبدأ العرض المسرحي بتقطيع أذرع إرهاب الميليشيات وفي ضجيج وصراخ واسع النطاق يشمل العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا.

الفرضية الثالثة للمتغير الأمريكي:

استنادا إلى الفرضيتين السابقتين، فإن الحرب قادمة لا محال، فلم تعد منطقة الشرق الأوسط ومنطقتنا العربية تحديدا تحتمل المزيد من الفوضى بعد أن استهلكت الملايين من الأموات والمشردين في سجال تقاطع أجندات المشاريع الدولية والاقليميّة. إن الخطر الأكبر لا يتجسّد في وحشيّة النظام الإيراني والنظام التركي الجاثمة على شعوبنا العربية، فهذه الأنظمة ليست أكثر من وحوش مدجنة لدى من هو أخطر منها، تلك القوى الشريرة التي تمتص دماء الشعوب وتنهب مقدراتها وثروتها من خلال الأساليب المجردة عن الأخلاق والقيم الإنسانية.

إن هذا التحليل البالغ الأهميّة بما يتضمن لا ينفصل عن جملة الأحداث الدائرة في الشرق الأوسط والوطن العربي ولا عن تاريخ روسيا ودورها في السياسة العالميّة والعربية تحديدا سواء القريب بما كانت عليه إبان عهد الاتحاد السوفيتي أو السابق ما قبل الثورة البلشفية الشيوعية، من الخطأ أن يذهب تفكير البعض باتجاه فرض عودة الحرب الباردة ودخول العالم في سباق تسلح جديد رغم أن أحد اهداف خطاب بوتين لا يخلو من الترويج لبضاعة الروس العسكرية. الأهم في هذا الاستعراض يكمن بوضع العالم على مدار فلك سياسة القطبية المتعددة، فلا جدال على تحالف روسي مع الصين، ولا ريب بأن النظام الكوري الشمالي في أهميته للصين وروسيا يعادل قيمة إسرائيل الاستراتيجية لدى أمريكا، فهو يؤدي ضمن محيطه نفس الدور الجيوسياسي الذي تؤديه اسرائيل في الشرق الأوسط. سواء كون هذا النظام رأس حربة أو عامل لزعزعة الاستقرار السياسي. بينما كانت روسيا ترتب أوراقها مع مجموعة دول البريكس BRICS في خطوات اقتصادية حثيثة نحو تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية منذ العام 2009، كانت أمريكا مع مجموعة حلف الأطلسي تتخبط في ترميم نتائج أخطاء ما اقترفت سياستها في العراق وافغانستان، ولم تنتهي لنتيجة أكثر من تفاقم الكوارث وتداعيات أخرى تسببت في اندلاع حريق كبير شمل عدة دول في الشرق الاوسط لا تزال نيرانه تحرق الأخضر واليابس، بيد أنه لا توجد ملامح أو مؤشرات تشير الى استقرار المنطقة العربية  بسبب اختلال التوازن الاستراتيجي الذي أحدثته الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الخلل الكبير خلق حالة من الرُعب والخوف لدى دول المنطقة وأباح لها التدخل السلبي في شؤون دول أخرى بذريعة الدفاع عن النفس واتقاء حالة الفوضى أو بدافع التوسع والهيمنة كما هو الحال في العراق وسوريا واليمن وليبيا. لا شيء يبيح لأمريكا بالتدخل وتحشيد قواتها العسكرية أكثر من دافع الهيمنة الاستعمارية والدفاع عن الجاليات اليهودية التي تم استجماعها من شتى بقاع العالم وحشرها في مستوطنات ضمن كيان دولة لا تتجانس مع محيطها الإقليمي. والأخطر من ذلك هو التجسيد الأسطوري لمشروع الحركة الصهيونية الذي أسس وجود هذه الدولة، فهو مشروع ديني يتناقض مع منطق التاريخ ويعادي جميع الشعوب والأمم بمنطلقات عقيدته العنصريّة، ونظيف دون تردد أو ارتياب بأن جميع ما تمر فيه منطقتنا من حروب وويلات أو تردّي وتخلف يرتبط مباشرة بعامل وجود هذا الكيان المدسوس في جسد الشرق الأوسط، فلم يكن احتلال وتدمير العراق الذي تداعت له سائر أمة العرب إلا من حيث كونه يشكل خطرا حقيقيا كان يهدد وجود اسرائيل. لم تعد الشعوب نائمة في سبات يسمح تمرير المخططات السريّة بدليل عجز وفشل الولايات المتحدة الأمريكية أن تخلق نظام دولة في العراق وأفغانستان. ولو راجعنا خطاب وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس آبان فترة حكم الرئيس الأمريكي ترمب، عن استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية باعتبار الصين وروسيا أعداء في المقام الأول وبخطوة غريبة ومفاجئة تراجعت في وضع الإرهاب في العراق وسوريا على أولويّة المواجهة. لم تمضي إلا أيّام فكان الجواب الروسي على لسان الرئيس وفقا للنسق البوتيني المتبجّح بالعظمة ليعلن قطبيّة الاتحاد الروسي بصريح عبارة التصدّي لأي تهديد نووي يستهدف روسيا أو حلفائها بأشدّ امكانات الرد وبما تعجز وسائل الدفاع عن التصدي لسلاح تم تطويره سريّا في روسيا؟

وبناء عليه:

يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تبدل سياستها في المنطقة العربية، وإن تتوقف عن دعم الأنظمة الإسلاموية، تلك الأنظمة التي تعشق الطائفية وتقدسها على إيقاع تطبيل التاريخ في كل فصول أكاذيب وزيف مسلسلاته التراجيدية. وعليه فإن العالم مقبل على حقبة تاريخيّة جديدة لا تنسجم مع العنصريّة بجميع عناوين تشدقها الديني والعرقي والثقافي. لابد من التعايش والسمو الإنساني فوق جميع الميول والتوجهات التي تصادر كرامة الانسان وتسلب حريته وحقه المقدّس بالعيش الكريم.


إرسال تعليق

0 تعليقات