المفارقةُ النفسيةُ في الشخصية الرئيسة, قراءة في رواية وكر السلمان لشلال عنوز

مشاهدات

 





إبراهيم رسول

كثيرةٌ جدًا, الرواياتُ العراقيةُ التي تناولت ثيمة الحرب, والأجمل, أن كل رواية قد اتخذت قصة تختلف عن الأخرى, وهذا إن دلَّ على شيءٍ فإنّما يدلُ على الخزين المؤلم في ذاكرة الفرد العراقي. إن تعاقبَ السلطات الدكتاتورية واستمرار حكمهم كثيرًا ولأزمان طويلة, صارت ذاكرة الفرد العراقي, حاملة للسوداوية والخيبة أكثر من الأمل والإشراق!

يلتقطُ الروائيُ القضايا التي يراها في عينه المجردة, فيدخلها إلى عالمه التخييلي, ويدخل هذه القضايا إلى عالم تقنياته السردية, فيمارسُ عمليات إعادة الخلق, فالأديب المبدع, يجب أن يخلق أشياءَ لا أن يعيد صورتها في الأسلوب عينه! فالعمليةُ  تعتمدُ على تنسيقٍ وتجربةٍ إبداعية, تستطيع أن تجمع وتخزن ومن ثم يتم التفاعل عبر عمليات داخلية, ليكون الناتج تجربة إبداعية وعملية تكوين جديد كل الجدة, فالممارسةُ ليست بهذه السهولة التي قد يتصورها الآخر, إنها استنزافٌ كبير. وما نراهُ في حكاية وكر السلمان, أنها لا تختلف عن كثيرٍ من الروايات العراقية التي اشتغلت على الثيمة نفسها, إلا أن المميز في طريقة الحكي والنسج, الذي جعل من الرواية تنفتح على صورٍ تأويليةٍ كثيرة.

 رواية وكر السلمان من الرواياتِ التي قامَ البناء الفنّي فيها على راوٍ عليم وسردية تتكأ على الاسترجاع والمفارقة, فالمفارقةُ الزمنيةُ هي بحسب جيرار جينيت: هي إعادة ترتيب زمني لعناصر الحبكة على مستوى الخطاب, فيما يتعلق بترتيبها الزمني على مستوى القصة, فالعودةُ إلى الوراء والتقدم إلى الأمام مصنفة على أنها مفارقاتٌ زمنية. وقد كانَ تقنية السرد تشتغل على بثِ خطابٍ يتلاءم والثيمة الأهم والأبرز في الرواية, ألا وهي ( ما تخلّفه الحرب). إنَّ تركةَ الحرب, قاسية, مدمرة, مؤلمة, تقتل الأمل. هذا إذا خرج المقاتل منها دون إصابة أو عاهة, أما الذي يخرج منها بعاهةٍ مستديمة, فستبقى لعنته دائمًا على الدنيا, وكل ما فيها. ثيمة الرواية تبدو للوهلةِ الأولى, أنها جديدة أو غريبة كنوعٍ ما, وهذه الغرابة هي في الأثر الذي تركته الحرب في نفسية الشخصية الرئيسة أو التي تعتبر داينمو القصة ( نعمان). شخصية نعمان, تحتاجُ إلى خبيرٍ نفسيٍ يُحللها, ويأتي بنتائجٍ مبهرة على صعيد علم نفس الشخصية, فالسلوكُ تغير بتغير الظروف! هذا ما أثبته السارد في هذه السردية, نقرأُ قصة مكتوبة بلغة تكاد تقترب من الواقعية المباشرة حتى لتكاد أن تتلاصق بها إلا أن مهارة الكاتب المبدع, جعلت من هذه التقنية , محببة عند المتلقي, ويتفاعلُ معها على أنها تمثلُ أمامه دراميةً, وفي هذه الدراما تتجلّى المشاعر وتتحرك الوجدانيات من سكونها لتتفاعل مع القصة تفاعلاً إيجابيًا.

يعتبرُ العنوان ثريا النص, وبالأخصِ في العمل الإبداعي, فالعنوانُ عتبةٌ مهمةٌ, ويجب أن يكون العنوان يحمل الصفة الفنّية والوظيفة التي تكون ضمن خطاب المتن الداخلي, من هذين المنطلقين أو الصفتين, نجدُ أن العنوانَ حققَ الصفة الفنّية والوظيفة, وكر السلمان هو المكان الذي دارت عليه الحبكة الروائية, فهو نقطة المركز في الرواية, فهذا الوكر المظلم, كان مسرحًا للعديد من الجرائم التي يهتز لها الضمير الإنساني هزًا! ولعلَّ مفردة ( وكر) تقترب تمامًا مع واقعية هذا الوكر الذي عُدَ المكان الذي تنزع الإنسانية صفتها عن البشر فيتحول إلى كائنٍ ممسوخٍ ! الجرائمُ التي حصلت في الوكر, كانت في المكانِ ذاته, وهذا اهتمامٌ له المسوّغ الفنّي الذي أرادهُ الكاتب المبدع, فالمكانُ ثابتٌ ومستقرٌ على تعدد الضحايا, فهذه صورةٌ فنّية, تشي بأنّ المكان قد اقترب وتشابه استخدامه ودلالته, فاتحدا معًا.
المفارقةُ النفسية في شخصية نعمان, باعتباره الشخصية الرئيسة في القصة, وبحسبِ ما نراه, وباختصارٍ نعرف المفارقة النفسية: هي التناقض السلوكي عند الفرد, ولهذا التناقض أمثلة كثيرة في الرواية. شخصية نعمان كانت شخصية سوّية, فهو طالبٌ في قسم القانون, من عائلة تعتبر مترفة في زمنٍ كانت لا تجد قوت يومها! فهو لديه ما يجعله يكون أكثر تنعمًا من غيره. اعتمدت الرواية المطبوعة ضمن منشورات أحمد المالكي الطبعة الأولى في سنة 2020. وسنأخذ أمثلة على هذه المفارقات النفسية التي كانت مهيمنة في سلوك نعمان, الذي يعتبر النموذج لهذا الاشتغال النقدي في هذه المقالة.

تبدأ أولى المفارقات في الصفحة 12 من الرواية يقول الراوي العليم: (بعد كل عملية قتل ينفذها نعمان في وكره الشيطاني, يرمي السكين جانبًا ويجلس قرب المجني عليه ويجهش بالبكاء, ثم يعانق الجثة الهامدة ويمسح ببقايا دم الضحية على وجهه وحينما يشم رائحة الدم يهدأ كأنما نسيمٌ من طمأنينة طاف روحه...) في هذا النص تجلت المفارقة واضحة, عبر تناقضين, فهو يقتل قتيله ويبكي عليه! وبعد القتل يبدأ بعناق الجثة, لكن ذكاء السارد جعلَ هناك مفارقة ثالثة, ألا وهي : أنه صارَ يرتاح ويهدأ وتطمئن نفسه لما قام به, بمجرد أن يشم رائحة الدم! في هذه العبارة, اتضح للمتلقي, أن الشخصية مأزومة وتعيش مرضًا حقيقيًا. إن دلالةَ ( يشم رائحة الدم) تشي بالغائية النهائية, فهو لا تطمئن روحه إلا حينما يتأكد من عطر الدم المستباح الذي أراقه للتوّ, فالعبارةُ تعني أن العملية وصلت إلى ذروتها, وشخصيته المأزومة قد حققت غايتها من الاستدراج حتى القتل, إذ بات الدم يمثل السكينة روحه المتعطشة للقتل, فهو يريد أن يقتص من أقرب الناس إليه, وقد بدأ بالفعل بهم واحدًا تلو الآخر, إذ لم يسلم من سكينه حتى أقرب الناس إلى قلبه! الساردُ كُلي العلم, كان واصفًا في الأحيان التي تستدعي منه الوصف, فالاستدعاءُ كان للاستراحة والتقاط الأنفاس, والتخفيف من الشحن المكثف في سرد الأحداث, فهو يقفُ مسدركًا في الصفحة 17 إذ يقول على لسان الضحية ناظم: ( ... لقد شم فيه رائحة الغدر وتيقن من جنونه, فهجم عليه ليسقطه أرضًا؛ ولكن سكين نعمان كانت الأقرب إلى صدره فسقط على الأرض مضرجًا بدمه...) في هذا المشهد , يقف القارئ أمام مشهدٍ دراميٍ , قد نسج بصورةٍ فنّيةٍ, الضحايا كانوا يُستدرجون إلى مكان الجريمة, ويبدأ القاتل بسرد حكايته ذاتها على الضحية قبل القتل! التساؤلُ الذي يلّحُ هو لماذا يقص القاتل حكايته لكل ضحية قبل القتل؟ الجوابُ يبدو واضحًا, ويُفسره سلوكه الإجرامي, ونفسه التي تحولت إلى نفسٍ شريرةٍ قاتلةٍ! المتأملُ في دلالة الكلمات الثلاث( شم, تيقن, فهجم) لأدركنا أنها لم تكتب جُزافًا ولم تكن صدفة, الذي يتضحُ من هذا السلوك, أن الضحية أدركت تناقض السلوك الشخصي وتيقنت من الانحراف السلوكي بدلالة مفردة ( شم, تيقن, هجم) ونلاحظ الترتيب الذي بُنيت عليه الكلمات في الجمل, تمهيدًا, يقينًا, من ثم المواجهة إلا أن المواجهة باءت بالفشل وراحت الضحية غدرًا! إذ عمد  السارد أن يضعَ لمشهد الجريمة صورة تراجيدية, فالقتلُ قُدمَ له بمقدماتٍ سيميائيةٍ, ونلاحظ أن الضحية تدرك مؤخرًا مما يجعل المشهد أكثر تراجيديًا ويثير في المتلقي العاطفة.

تنوّعَت المفارقة النفسية بين راوٍ عليم والشخصية ذاتها, فالراوي أيضًا يقول واصفًا الصراع الجوّاني الذي كان يمثل المفارقة السلوكية في شخصية نعمان البطل المركزي, في الصفحة 19 يقول الراوي كُلي العلم: ( كانت الأفكار تتراقص في أعماقه مثيرة زوابع من أسئلة حائرة في نفسه: أين تسير يا نعمان؟ أي طريق مرعب تسلك؟ ما هي النهاية؟ ما جدوى أن تأكل؛ والدم القاني يأكل روحك...) لم يكتفِ السارد بترك الشخصية تُكشف عن تناقضها السلوكي ونزعتها الاجرامية, بل تدخل أيضًا ليُضيف معلومة إلى المتلقي, بأن هذه الشخصية المريضة, كانت تعيش صراعًا داخليًا كبيرًا وكثيرًا, إلا أن الصراعَ سُرعان ما ينتهي بعد أن يشمَ ريحة دم الضحية ! هذه النفسُ هي نفسٌ إنتقاميةٌ, تريد أن تنتقم من الحياة التي أوصلتها إلى هذه العاهة المستديمة, فالنفسُ ناقمةٌ على كل البشر لا فرق بين أحدٍ منهم! طريقة السرد كانت تعطي حرية تامة للشخصية المأزومة أن تُمارس حُريتها السردية, ولذلك نجدُ أن شخصية المؤلف تتلاشى وتختفي تدريجيًا عندما يستدرج القاتل ضحيته, والساردُ يكتفي بالوصف التراجيدي ليس غير.
الأثر الذي تتركهُ الحرب, كان غريبًا في نفسيةِ نعمان, وغرابته تكمن في النزوع الإجرامي المفرط والمتعطش للقتل, إذ أصبحَ الدم هو الراحة التي يتلذذ بها.
 
الذروةُ في المفارقةِ النفسية التي أبدع الكاتب في حياكتها هو قصة استدراج الحبيبة ( سناء) إلى الوكر وتنفيذ الجريمة بحقها والتي هي أقرب الناس إلى روحه! المسوّغُ في القتلِ لا يوجد إلا إرضاء دافع القتل وروح الانتقام المتجسدة فيه, التساؤل الذي أثاره النصّ, كيف أن يتحول الحبيب إلى قاتلٍ متعمدٍ؟ هذا التساؤل أُثيرَ بصورةٍ غير مقصودة. في دراما مشهد القتل, كان الثابت الوحيد في استدراج الضحية هو المجوهرات والتحف الأثرية الثمينة , الثابت هو إدراك الضحايا جميعًا لنية القتل التي يروم فعلها إلا أنهم جميعًا لم يتمكنوا من انقاذ أنفسهم! إن ثبات وتقارب مشهد القتل على نفسِ الصورة له دلالة , أن هذا المكان يُشكل بؤرة في الأزمة النفسية للشخصية, وهذه البؤرة تلاءمت مع الظروف والملابسات لذلك أصبح المكان الثابت للقيام بالجريمة.
اعتمدَ الساردُ تقنية التناوب في السرد, وأسلوب التناوب يكسر الزمن السردي ولكنه لا يحافظ على ثبات الزمن الحقيقي, فأسلوب التناوب هو الغالب أو المهيمن بصورةٍ تامة على الرواية, والذي يعتبر أحدث الأساليب البنائية, فالروايةُ فنٌّ معماريٌ, وهذا الفن يحتاج إلى تخطيطٍ فنّيٍ, وما يُسجل للرواية, أنّها كانت تشتغل على خطابٍ عقلانيٍ, وهذا الخطاب لديه غاية والغاية من السرد تكمن في هذه الغاية التي يُراد إيصالها بالصورة التي وصلت إلينا.

المفارقةُ النفسيةُ كثيرةً ما كنت تؤرق عليه, وتنغص حياته, لكن سرعان ما تتلاشى هذه المفارقة حينما يخرج من الوكر بعد أن أرضى غايته الشريرة, فالشخصية كانت تعيش صرعًا نفسيًا واضحًا, يقول في السارد في الصفحة 109: ( فكان يتمزق لوعة في أعماقه, فكل شيء فيه يتمرد, كل ما فيه يقول مستنكرا: لماذا تغتال كل هذا الحب...) قال هذا القول عند قتل حبيبته! الساردُ جعلنا نتقبل الشخصية على علّتها وأزمتها النفسية, إذ جعل المتلقي يقع بين أمرين, الأمر الأول هو الأزمة النفسية وسببها, والأمر الثاني هو دلالة وأثر هذه الأزمة! لغةُ التناوب السردي, وشعرية اللغة المفعمة بالاستعارات, مكنت الرواية أن تتكأ على التخييل الذي يجعل من العمل السردي بعيدًا عن الواقعية المباشرة التي تكون في الأعم الأغلب مستهلكة , إذ يقع الكثير من الروائيين في المباشرة نتيجة الاستجابة والتأثر المباشر مع الحكاية, إلا أن رواية وكر السلمان, كانت تقترب من الواقعية إلا أنها ليست الواقعية المستهلكة التي تحرق القصة عند قراءتها الأولى, فهي تعتمد التشويق والإثارة في الاقتراب والابتعاد أو التناوب بين الواقع والخيال.


إرسال تعليق

0 تعليقات