[عِصابةُ] نّبِيِّنا مُحَمَّد

مشاهدات

 




علي الجنابي

(أمّا مَمحكَةُ سَبِّ الصَّحابةِ، فزندقةٌ ومَهلكة، وأمّا مضحكةُ فرزِ الصَّحابة فمزلقةٌ لمعركة).
وإنّما خيرُ خَلقِ اللهِ بعدَ الرسلِ، أولئكَ هُمُ آلُ النبيِّ، وما إجتباهُ لهُ ربُّهُ من أصحاب، فلا يَبهَتُهم إلّا كلَّ (أعَورٍ زنديقٍ أغَبرٍ) مُرتاب، قَضَى اللهُ لهُ بكثيرِ عقابٍ، وبكبيرِ عذاب، وبشّرَهُ بأن يَتَبَوَّأً له مقعداً في جحيمٍ، وما كيدُهُ إلّا في تَباب. ذاكَ أنَّ الأصحابَ، كلَّ الأصحابِ، كلَّهم أجمعين، كانوا لرسولهِ أصفى "عِصابةٍ" وأوفى الأحباب!
أتقولُ "عِصابةً"!
أجَلْ، هُم"عِصابةُ" النبيِّ في الضرّاءِ وحينَ البأسِ في ضربِ الرِّقاب، ومُخَلَّدونَ أبداً الدَّهرِ بين الأممِ وفي الأعقاب، ولفظُ "العِصابةِ" هو ذروةُ ما يَتمنَّوْنَهُ هُمُ من ثناءٍ ومن ألقاب، فلقد اعتَصَبَ النبيُّ وتَعَصَّبَ بالذينَ أصطفى له العليمُ مِن أصحاب، مِن مهاجرينَ ومن أنصارٍ، وكانوا خيرَ مَن مشى عَلى التّرابِ من أنساب، فآمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ في دارِ الأرقمِ، وفي بدرٍ ويومَ الشجرةِ ويومَ الأحزاب، وجاهدوا بأموالِهم وبأنفسِهم، وكانوا له همُ خيرةَ الأحساب، بل وأنفقوا حتى ما عليهمُ من أثواب، يرجَوْنَ بذلكَ من اللهِ غفراناً وخيرَ ثواب، ورضواناً وحسنَ مآب. و(صاحَبوهُ) ربعَ قرنٍ غدوّاً وعشياً في تبليغِ رسالتهِ، وهنا سَمَّاهمُ (الأصحاب)، فكانوا همُ *(العِصابةُ الصَّحابةُ) * أولو النُّهى والألبَاب. وكانوا بحقٍّ هُمُ الأطهارُ الأبرارُ الأخيارُ وكانوا بينَ يديهِ أسْداً كالذئاب، وصالوا مِن بعدهِ على جبينِ "كسرى" الفاجرِ الأجوفِ الكذّاب، وجالوا من بعدهِ على بنينِ "قيصرَ" الفاسقِ الأخوفِ المُرتاب، وكانَ كُلُّ منهم يَبيتُ ناسكاً متَهَجِّداً وأوّابٌ.
 ولو أنَّ (الخَفّاشَ الدَّعِيَّ) عَلِمَ ما في الضّادِ من بيانٍ، ومن بلاغةٍ ومن إعراب، ولو أنّهُ فَهمَ ما في البادي مِن عنان، ومن فصاحةِ الأعراب، لَما مَدَحَ ولما مَنحَ أولئكَ الثلّةَ هذا اللقبَ (عِصابة) دونَ أن يعلمَ الأسباب. أسبابَ ما في البيانِ من ألوانٍ، ومن ألحانٍ بإيجاب، فظنَ أنَّهُ قد رَدَحَ فقدَحَ، بيدَ أنهُ مدحَ وما أفلحَ بقذفَهَم بحماقةٍ وإقتضاب. ولا ضيرَ من ذيكَ الحماقةِ، ولا تثريبَ ولا إستغراب، ذاكَ أنه...
 لمّا كانَت ضُروبُ عَربِ الأولينَ بالخيرِ مُخضَرَّةً، وبأريجٍ من فصوصٍ بمسكٍ ورضَابِ، كانَ لفظُ "العِصابةِ" في لسانِهم فوّاحاً وجَمّاً بثناءٍ خَلّاب.
ولَمّا بانت دُروبِ عَربِ الآخرينَ بالشَّرِ مُكتَظَّةً، وبمزيجٍ من لصوصٍ بنسكِ من خَراب، بانَ لفظُ "العِصابةِ" في كيانِهم نوّاحاً وذَمّاً بهجاءٍ بلا أنياب.
وما ذلكَ إلّا لجهلٍ في قبيصةٍ من آخرين، ولغباءٍ فوقَ غباءٍ، وسرابٍ في سراب.
فما وردَت كلمةُ "عُصبةٍ" قطُّ في التنزيلِ العزيزِ إلَا مدحاً وفخراً؛ (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)، و (بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)، وكذلكَ (هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي؛ إشادةٌ بهولِهِ، فهو بالفزعِ معصوبٌ ويُمَزِّقُ الأعصاب. وأمّا آيةُ (جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) فلبيانِ العدد، أي جَماعةٌ قلَّةُ منكم، وليسَ كثرةً بإفكها تطرقُ الأبواب، أو تتقافزُ بإفكها كسربِ جرادٍ، أو جحفلٍ لعشيرةِ الغراب، ولم يردْ في لسانِ العربِ قطُّ أنَّ (العُصبةَ) أو(العِصابةَ) لفظٌ يرادُ بهِ الذَّمُّ والهجاءُ للأغراب، بل إنَّ عُصبةَ الرجلِ همُ بنوهُ وقرابتُهُ لأبيهِ وهُمُ الأقطاب، وهُمُ الذين يَرثونَ الرَّجلَ عن كلالةٍ في الأحقاب، فقالَ الأزهريُّ (عصبةُ الرجلِ أولياؤُهُ الذكور) بالأنجاب، و(ورثتُهُ، وسمّوا عصبةٌ لأنَّهم عصبوا بهِ) في الضَّرَّاءِ والسَّرَّاءِ وحينَ الصّعاب. وكلُّ شيءٍ إستدارَ بشيءٍ فقد عُصبَ بهِ بإنتساب، ويُقالُ للعَمائم؛ "عَصائبُ"، وواحدتُها "عِصابةٌ" ترونَها تُجاهِدُ كرَهْطٍ وكبنيانٍ مرصوصٍ بترحاب. والعمامةُ كلُّ ما يُعَصّبُ به الرأسُ بشدَّةٍ وإنجذاب، وعَصَبَ القومُ بفلانٍ، أي استَكفوا حَولَهُ كما إستكفى الجفنِ عن الترابِ بالأهداب، و(العُصبةُ؛ ما بينَ عَشرةٍ إلى أربعينَ) وذلكَ هو أحسنُ ما في المعاجمِ من جَواب، و "العِصابةُ" عُصبةٌ لكنّها أشملُ وأعمُّ بإسهاب، والعِصابةُ في مختار الصحاح؛ (همُ الجَماعةُ من النَّاسِ والخيلِ والطيرِ)، وأنبلُ عصابةٍ عصابةُ الذئاب، وقالَ الأخفشُ؛ (والعصبةُ والعصابةُ جماعةٌ ليسَ لها واحدٌ) فلا تبحثُ ياصاحُ في المعاجمِ عن مفردٍ لها بإعتكافٍ وإحتجاب. وقالَ الفرزدقُ؛ (وَرَكبَ كأَنَّنَّ الرِّيحَ تطلُبُ منهُم، لها سَلَباً من جذبِها بالعَصائبِ)، أي تَنْقُضُ لَيُّ عمائمِهم من شِدّتها، فكأنَّها تسلُبُهم إيّاها بإستلاب.
فلا لومَ ولا عتبَ على (خفافيشٍ) حينَ الغروبِ مُزعجةٍ بإكتئاب، ومُحَلِّقةٍ في حديقةِ الدارِ بإرتياب، بلِ اللومُ والعتبُ على جاريِ، ذي دارٍ بشاهقٍ من جدارِ، لصيقةٍ بجوارِي. الجدارُ مَلآنٌ من جحورِ لخفافيشَ صغارِ، ومن بقٍّ كبارٍ، وبِشِراكٍ من عناكبَ ومن طنينِ ذُباب، فتراها فيهِ تتناكحُ، وتلهو فيهِ وتتباطحُ، وتتنفسُ بلا إضطراب، وجاري في غَمرةٍ مِن جحورِ جدارِهِ هذا، ومن طنينِ الذباب، فترى الجارُ حينَ يُصبحُ يتمايلُ ضاحكاً في الذهاب، وتراهُ حينَ يُمسي يتآيلُ مُتهالكاً حينَ الإياب، وكأنّهُ ناسٍ أو مُتناسٍ أصلَ اصولِ الجيرةِ، ونصلَ الصَّواب، ولن أتجرّأَ لأقولَ أنَّ الجارَ نقضَ عُرى الأخلاقِ والآداب، وإنقَضَّ عليها عن عَمدٍ بإنقلاب. لذلكَ فهذه السطور هي بقيةٌ من عتبٍ بحَرفٍ سديدِ، ولومٍ بذرفٍ شديدٍ من خطاب، موجّهٍ إلى كلِّ ذي فقهٍ (شيعيٍّ) رشيد، يتباهى ويعتزُّ ويفخرُ بمذهبهِ بإعجاب. ويتناهى ولا يجتزُّ ولا ينخرُ بمذاهبِ شركاءِ الدَّارِ بإنكبابٍ وبإطناب.
ألا ليتَ الكريمَ جاريَ، يطمرُ جحورَ الجدارِ، المَلآنِ من خفافيشَ صغار، ومن بقٍّ كبار، وجيشٍ من بقٍّ ومن ذباب، ألا ليتَهُ طمرَهم وتركَ التخَطِّيَ والتمَطِّيَ في زقاقِ الحيِّ كالغراب، فيريحَ ويستريحَ، وتهدأَ نفوسَ الحيِّ، وتسترخيَ بسلامٍ وإنسياب.
ألا ليتَهُ فعلها.
عسى أن.

إرسال تعليق

0 تعليقات