في مواجهة الدب الروسي

مشاهدات


 

فاروق يوسف


لا ترغب أطراف عديدة في العالم في أن ينتصر الروس في حربهم على أوكرانيا. ذلك كان مؤكدا قبل نشوب الحرب حين دفعت تلك الأطراف روسيا إلى خوض حربها الاستباقية.

ولكن هزيمة روسيا المحدودة سيكون لها أثر ضار بالعالم. فروسيا ليست دولة عادية. وحين يحذر العالم الدب الروسي فلأنه يعرف أن نصره وهزيمته متساويان في أثرهما السلبي عليه.

وسواء حررت أوكرانيا كامل ترابها من الاحتلال الروسي أو لم تفعل فإن خسارتها البشرية والمادية لا يمكن تعويضها عن طريق بث الروح المعنوية في جثتها التي داسها الدب الروسي.

يستطيع الغرب إذا ما انتهت الحرب أن يعيد إعمار أوكرانيا، ولكن ثمن ذلك سيكون باهظا. ذلك لأن أوكرانيا ستصبح مستعمرة غربية وسيظل عداؤها لروسيا مستمرا لتستمر شفقة الغرب عليها.

لم يكن فولوديمير زيلينسكي وطنيا كما يزعم. وطنيته تلك لم تمنعه من وضع بلاده على طاولة الحرب الخفية بين روسيا والغرب. كان عليه أن يجنب بلاده ذلك المصير. فقد لا يفكر أحد في أوكرانيا إذا ما انتهت الحرب. للعالم مشاغله والغرب يدير ماكنة المصائب في بقاع أخرى.

في إمكان روسيا أن تدير حربها الاقتصادية ولو بخسارة. أوروبا ستكون الضحية إذا ما تفاقمت مشكلات الطاقة. وليس استعداء روسيا بالأمر اليسير.

لم تضع روسيا حساباتها كلها في الجانب العسكري وإلا ما كانت على ذلك الاستعداد الذي ظهرت عليه وهي تعلن حربها الاقتصادية. كان كل شيء واضحا لفلاديمير بوتين. إنه يخوض حربا ضد الغرب كله. وهي حرب بدأتها روسيا عسكريا غير أن كييف هي التي حرضت عليها مدفوعة بالتحامل الغربي.

لم يعتبر الغرب استعادة أوكرانيا لجزء من أراضيها فاتحة لهزيمة روسية شاملة. الأمور ليست بهذه البساطة. في المقابل فإن تفسير روسيا للنجاحات العسكرية الأوكرانية ليس مقنعا. فالقوات الروسية لا تُهزم بإرادتها ولا تسلم بيسر أراضيَ كانت قد احتلتها بصعوبة. ولكن قد تكون لروسيا مآرب أخرى من تلك الحركة.

ليس المطلوب أن يبدو الطرف الأوكراني مهزوما بشكل كامل. ذلك لن يشجع على قيام مفاوضات متكافئة. بوتين يعرف ما بيّته له الغرب من نوايا. وإذا ما كان زيلينسكي قد وضع نفسه في خدمة مشروع أكبر من أوكرانيا فيجب ألا يشعر بالإهانة الشخصية. لذلك فلا يضير أن تخسر القوات الروسية جزءا من الأراضي الأوكرانية التي تحتلها. تلك الأراضي ستعود في النهاية إلى دولة أوكرانيا لو نجحت المفاوضات وهي ستنجح بالضرورة. لا أحد من الأطراف يرغب في أن تفشل أو أن يطول أمدها.

“إما البرد أو الطعام” معادلة تنتظر فقراء بريطانيا على سبيل المثال في الشتاء المقبل. ارتفاع الأسعار بسبب التضخم الذي ضرب اقتصادات الدول الغربية رفع من منسوب الفقر. أما شركات الطاقة فقد صارت تهدد بأسعار لن يتحملها الكثيرون بعد أكتوبر المقبل. ذلك ليس كل شيء. الحرب الاقتصادية يمكن أن تصيب قطاعات هامة بالشلل الجزئي أو الكامل. أكل هذا من أجل أوكرانيا؟ طبعا تلك كذبة. روسيا هي هدف الحرب والسياسيون لا يفكرون في الفقراء حين يُتاح لهم أن يشنوا حربا لأسباب يُقال إنها إستراتيجية. ولكن في النهاية الفقراء هم الضحية المؤكدة.

لا يعني ذلك أن الغرب سيستسلم. فالولايات المتحدة التي تقوده لم يصلها الضرر بعد وقد لا يصلها. أوروبا هي التي دفعت وتدفع وستدفع ثمن الحرب الاقتصادية. وهو ما سيدفع بها بالتأكيد إلى التحرر نسبيا من قبضة الولايات المتحدة وبالأخص بعد غياب بوريس جونسون من قيادة بريطانيا. صحيح أن خليفته في المنصب لا تزال تؤكد أنها ماضية في طريقه غير أن ذلك مجرد كلام ستفشله التجربة. فلا مصلحة لبريطانيا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام في استمرار الحرب في أوكرانيا.

لا يزال هناك مَن يركز على ضرورة استمرار العقوبات على روسيا التي من جهتها تعرف أن حربها الاقتصادية صارت مصدر قلق للأوروبي العادي الذي يمكنه أن يفعل الكثير من جهة قدرته على الضغط على حكوماته.

 حرب من السخف أن تستمر إذا كان الطرف المتفوق فيها مستعدا لإعادة دورة الزمن إلى ما كانت عليه قبل قيامها. وتكون أوروبا قد ابتعدت عن حالة التهريج التي تلبستها لتنصت إلى المطالب الروسية التي تعبر عن حق الدفاع عن النفس. واقعيا فالناتو لا يحتاج إلى صواريخ موجهة إلى روسيا في أوكرانيا ولا الاتحاد الأوروبي في حاجة إلى دولة يمكن أن تنتمي إلى سلسلة الدول التي يشكل وجودها مجرد زيادة في الرقم وليس تطويرا للنوع. فشبح أوكرانيا الذي تم التهديد به قد لا يغني أوروبا اقتصاديا بقدر ما سيثقلها بالبشر الذين سيهاجرون إليها. أوكرانيا هي التي تنتظر الرفاهية من أوروبا.

ليست هناك دعوة للتخلي عن أوكرانيا التي هي ليست مهددة بالتأكيد بالابتلاع الروسي. لدى روسيا ما يهمها في أوكرانيا وبالأخص في ظل حمى الخطاب القومي الذي تبناه زيلينسكي. ولو استطاعت القيادة الأوكرانية إقناع الروس بأن تلك النزعات القومية سيتم تحييدها فليس أمامهم سوى الخضوع للشروط الأوكرانية كلها.

ذلك ما ننتظره وقد يكون بداية لمرحلة أوروبية جديدة.

إرسال تعليق

0 تعليقات