سلاماً عليك يا سلام

مشاهدات


 

رباح آل جعفر

مثلما تتوارى نجمة خلف الليل. مثلما تنام وردة مدفونة في كتاب. توارى جثمان صديقنا سلام الشماع في التراب. كأن الغربة أرهقته طويلاً فتوقف ليستريح. كما يستريح طائرٌ على حجر. لينام كالراية المتعبة. أصدقاؤنا يرحلون سريعاً كما الأيّام. إذا مضى يومٌ من العمر لن يعود. ونحن نحسب أيام العمر مثل حساب العصافير لحبّات البيدر.
كانت الابتسامة من ملامحه أينما حلَّ وارتحل. يشيع الظرف في قلوب أصدقائه ومحبِّيه. ويضحك في أحلك الساعات كآبة. فهو الأنيس المؤنس. والحافظ لصداقاتهم على امتداد العمر. والعمر غادر ٌ وغدَّار. وكان يشتهي أن يبني عشَّ عصفور مع الفجر على شبّاكٍ في بغداد، إذا عزّ مع الفجر لقاء.. وعزّ مزار.
أغالب مشاعري فأكتب رثاء في آخر من فكرت أن أكتب في رثائهم. هناك من الأصدقاء يصيبك رحيلهم في الصميم فتشعر بوحشة في غيابهم. وتحزن من أعماق قلبك.. فتسأل: أهذا كل ما يبقى.. صورٌ معلقة على الحيطان، وحفنة من تراب؟!.
قتلتنا الفكرةُ يا سلام. نحن أبناء الجيل المنسيّين على حبل ممدود من المراثي. تعبنا من صيف كئيب، وخريف غاضب، وربيع موحش، وشتاء حزين. تعبنا من هجاء الزمان ومن لعنة المكان. ضجرنا من واجهات المكتبات ومن أكشاك الورّاقين. نمسك نجمة فتفلت ألف نجمة. أحلامنا التي تمزقت كأوراق الجرائد القديمة.
في منتصف الثمانينات عرفت الصديق سلام الشماع ذلك الألمعي المتوهج وقد تكسَّرت على صدره "النصال على النصال". وكان محرراً لبريد المقاتلين في جريدة القادسية ينتظره القراء بلهفة كل اسبوع. مؤنساً في بريَّة الروح. صحافياً لامعاً، وقلماً مضيئاً، وكاتب تحقيقات من الطراز الأول. يصطاد الأخبار بمهارة صيّاد. مستقيماً مع نفسه من الوريد إلى الوريد حتى وعاديات الزمان تحاول انحناءه.
كانت أحلامه بمساحة وطن وآماله بحجم زلزال. وكان سلام شديد الممانعة. عصيَّ القلب. كثير الأوجاع. مهجوساً بالإبداع.. حارساً أميناً للذكريات. ولتراث الآباء والأجداد. يعاند العاصفة. ويصارع الأقدار. كمصارع الفرسان والعشاق. ويبحث عن شقائق النعمان، التي تشبه جراحات الحبيب.
خلال هذه السنوات الممتدة من صداقتنا. تغيَّر كثيرون. تغيَّرت أشياء كثيرة. قامت الدنيا ولم تقعد. اندلعت حروب. وافترقت دروب. تفككت أوطان. واهتزت مواقف. وبقي سلام بنقائه الأول يسكن دواوين الشعر والأغاني. مثل قارورة عطر في دكاكين العطور. ينام في الكاظمية فيستنشق رائحة الأعظمية. يجلس في مقهى بعمَّان فيتلفت القلب إلى مقاهي الحيدر خانة في بغداد. يمرُّ في غوطة الشام فيتذكر بساتين دجلة وعصافير الفرات. لحضوره نكهةٌ ورنين، ولغيابه وجعٌ وحنين.
ولقد عشنا زمناً بالطول وبالعرض. توقفنا مع الوردي في شارع الشريف الرضي. وجلسنا مع الحنفي في منارة الخلفاء. وتبادلنا الابتسامات مع حسين علي محفوظ.  وسرنا معاً من صحيفة إلى صحيفة. ومن مجلس إلى مقهى. ومن صالحية بغداد إلى صالحية دمشق. ومرَّت علينا ليال كنّا نسهر على ضوء "لمبَّة" ونحن نحرّر الأخبار، ونعيد صياغة التحقيقات، ونختار مانشيتات مشوّقة ومثيرة، وحيث الناس تختلف إلى بعضها، فلقد قابلنا في عالم الصحافة أشخاصاً لم يلبثوا أن تدحرجوا حتى كنسهم النسيان، وبعضهم ترك المهنة، وضاع في الحياة!.
مبكراً جاء الرحيل يا سلام. لتنام مطمئناً في الذاكرة. للأعزاء مثلك طريقتهم العجيبة في المغادرة. كم سيفتقدك الأصدقاء والمحبون الطيّبون. كأنك في لحظة وداع أخيرة تريد أن تقرأ لهم قول مالك بن الريب:
يقولونَ لا تبعدْ وهم يدفنونني
وأيـنَ مكانُ البُـعد إلا مكانيـا؟.
سلاماً عليك يا سلام حتى الرمق الأخير.













إرسال تعليق

0 تعليقات