فانتازيا

مشاهدات

 




فائزة محمد علي الفدعم  

تمضي بنا الايام والشهور والسنوات دون ان نشعر بها وتتوالى علينا الصور والاحداث الجميلة ولكن عندما ننظر الى الماضي نرى اننا قطعنا شوطا كبيرا . كنت فرحة في مرحلة الطفولة وكان من عادات والدي ان ياخذني معه الى المقاهي والاسواق وبستان العائلة وانا اذكر دائما تلك الصورة وكيف امسك يده بشدة لانها مفتاح الامان لحياتي . كانت ايام فرح وسرور وفخر وانا ارى احترام الناس عندما يحيونه باطيب الكلمات ولم اكن انتبه الى مايقولونه الا حينما كبرت وبدات اتطلع الى وجوههم وهم يرددون صباح الخير حجي والبعض يقول : مولانا واكثر الالقاب تمر دون ان تجذب انتباهي الا حين ينادونه : ابو كمال .

اذكر حين كنا نخرج عند شروق الشمس للذهاب الى البستان مع خالي الذي يفتح لنا الباب بالمفتاح الخشبي الكبير فتهب علينا الروائح العطرة لورد الرازقي والجوري والختمة وعرف الديك وحلق السبع وكان لنبات الخشخاش المزروع في ساقية تمتد الى نصف البستان عطر مميز وفي اطراف البستان اشجار الغرب بعطرها الزكي وهي تتمايل خجلا وكانها ترقص على تغريدات البلابل وفي جهة المقابلة للورود في الساقية البعيدة المخصصة لزراعة الباميا والباذنجان واللوبياء والخيار والفلفل بانواعه جميعها لانها متطلبات البيت وكونها طازجة وكان الاهل يقومون بقطف (البربين ) وهي الاكلة المفضلة لدينا والتي يقول عنها والدي انها نبتة مباركة ولها 99 فائدة غذائية للجسم وهي مُنتشرة في كل مكان وفي البلدان العربية تسمى (الرجلة او البقلة ) وكانت الوالدة تقوم بطبخها مع اللحم والجميع يتهافتون عليها الا انا فقد كنت ابكي واصرخ ولااتقبل حتى تذوقها الا بعد الحاح الوالد ومنحي درهما كاملا في يدي فاعود الى الاكل بدلال لكي يرأف بحالي وبعد الغداء اتسلل دون ان ينتبهوا واخرج بسرعة الى محل فاضل لشراء الازبري والذي كان يسعدني اكثر ان القدح المملوء كان ثمنه عشرة فلوس فاخذه وامشي سعيدة ومعي بقية الدرهم واذهب الى ابناء وبنات الجيران الذين كانوا ينتظرون قدومي لالعب ( الطرة كتبه ) فاخسر جزءا من النقود وفي لعبة اليانصيب اخسر الباقي وانا مسرورة لاني انتظر اليوم الثاني لاشاكس في الاكل واحصل على درهما اخر .
هذه الذكريات مغروسة في قلبي كانني اعيشها الان . وكنت احيانا اذهب مع والدي الى البستان ظهرا ونجد فيها رجلا مؤدبا اسمه الحاج خليل جوير وهو يرتدي ملابس غريبه بالنسبة لي ويقف قرب صناديق خشبية لاخراج العسل الذي ينتج هناك  بسبب كثرة الورود والرياحين والحاج يكنى ( ابو خالصة) كان النحل يتطاير حول الخلايا ويحميها فيبتعد عنها الوالد ويبعدني ايضا وقد تشجعت وامسكت بيدي عصا صغيرة لارعب بها النحل واطرده بعيدا عن الملكة دون ان ادري مقلدة ابو خالصة وهم يحاولون ابعادي بالصراخ خوفا عليَّ ولكن في غفلة من الجميع واذا باحداها تطاردني وانا اركض فانتصرت علي ولدغتني وبدأت بالبكاء والصراخ من شدة الالم فانبرى العم خليل باخراج السم وعصر مكان اللدغة وبكلمات ابوية كان يهون علي وقال بان اللسعة نصوحة ومفيدة للجسم . هكذا كانت الحياة تمر كاشعة الشمس مابين الضحى والغروب بسرعة لانشعر بها .

في بعض تلك الايام كانت تتغير مواسم اللقاءات واكثر مايزيد في نفوسنا وقلوبنا الفرحة حين نذهب في وقت العصر الى البستان من الباب الاخرى القريبة من السكة الحديد التي اصبحت الان كازينو (عيون المدينة)  مقابل القبة الزرقاء كانت الحشائش تملأ المكان لانه مقفر والباب الخشبي الكبير يفتح عصرا لخروج الابقار من الحضيرة التي كنا نتابعها وهي تسير الواحدة بعد الاخرى في منظر جميل وهي تنوء بحمل الحليب وتسير ببطئ فتملأ وجه والدي الابتسامة .

 وعلى حين غرّة التفت وشاهدت شباب في عمر الورود يتسللون خفية ويدخلون الى البستان وعيونهم شاخصة على والدي كيلا يراهم فنظرت اليه وسالته بحذر وهمس من يكون هؤلاء الاولاد؟  فأجابني وهو يضحك : انهم الشباب الشيوعيون الذين يجتمعون فيها حتى لايراهم احد وعند خروجهم يختبىء احدهم قرب السكة الحديد لتامين ذهابهم ... هكذا كانت تمر الحياة في مدينة بعقوبة وخاصة الايام الجميلة في بستان الذكريات . كانت تذهب صديقات والدتي للتفتيش عن بيوت القنافذ وتقوم احداهن بسد المنفذ الذي تخرج منه وكما ذكرت احداهن : ان القنفذ يبحث عن بيته فلا يجده فيذهب الى نهر خريسان ويجلب بفمه اثنان من العصي الزجاجية الصغيرة على شكل حلزون يضعها على منفذ البيت الذي يعيش فيه فيفتح والسعيدة من تحصل على واحدة منها لانها تباع باغلى الاثمان وعندما يغادر النسوة كنت اتحين الفرص واعود بهدوء دون ان يراني احد فافتح المنفذ واهرب وبعد ايام ياتينَّ ليجدنَّ الباب مفتوحة بدون وجود العصي .
 
 كانت الجارة ام حسن لديها اثنان من العصي يسمى عرق السويحل تضعهم في طشت فيه ماء لجلب السعادة بين الزوج والزوجة والحبيب والحبيبة والنسوة يتفرجنّ عليها وهي تقول : شوفوا شلون الزوج يلحق الزوجة وعندما تكمل العملية كانت تضع عرق السويحل في قطعة من الجلد وتعلقه بدبوس في ثيابها واحيانا كنا نغادر البستان مبكرا والبسمة والفرحة تقودنا الى مواصلة التنزه والترفيه فآخذ كيس (ابو الخراطه) واضع فيه التمر والجوز والزبيب والحلقوم ابو الازبري الذي احبه كثيرا ونحن سائرون وعيوننا شاخصة للكورة التي يديرها قاسم والتي كانت ارضها مستأجرة من والدي من قبله هو وجاسم الكواز .

كنا نشتري بعض الدنابگ وابريق صغير او تنگه صغيرة نحن الاطفال . وبعد كل تلك الذكريات للاسف انضمت ارض تلك الكورة الى ( شرطة البلدة ) ومنها نذهب ونكمل المسيرة لزيارة ابو ادريس ولكن الاقدار تقودنا دون ان نعلم الى بناء كبير مقابل الضريح مكتوب عليه ( بيت بندر ) فيه قبران صغيران بدون شاهد . وهنا يصيبنا شيء من الصمت والحزن وتقول : اقراوا الفاتحة لكمال وحسين فهم اخوتك وقد تعجبت للامر ولم افهم شيئا في ذلك العمر الصغير وبعد سنين وزيارات مُتعددة اصبحت في الصف الخامس الابتدائي والكل يعلم ان حب الاستطلاع يتملكني دوما وفجأة سألت والدي الذي كان يتحدث عن ضريح ابو ادريس وقلت له كيف لي اخوه وانا لااعلم ولماذا رحلوا عنا ؟

وفي لحظة هدوء ودهشة منه نظر الى السماء وطلب مني ان اجلس الى جانبه وبدا يروي لي القصة وهو حزين فقال :  ان والدتي ووالدي لم يرزقوا باطفال ولكن رب العالمين بعد الدعاء والنذور رزقهم بولد اسموه محمد علي ولما ابصرت النور اشتروا جاموسة والبسوها قرنا من فضة وآخر من ذهب وساقوها كنذر مستحق وسط تعجب اهالي بعقوبة ليبقى ذلك الحدث يتداوله اهل المدينة من قصص الماضي واخذ النذر الى مدينة النجف ومقام سيدنا علي ( عليه السلام ) وقال :

كنت انا الوحيد لعائلتي وكان اهلي اثرياء وعندما اغضب وابكي يقوم والدي بملئ كاسة من الفخار بالليرات الذهبية لافرح بها وعندما اصبحت شابّا في السادسة عشر من عمري زوجني من قريبتي السيدة المصونة اخت المحامي السيد جمال مصطفى البندر واقيمت الافراح لمدة سبعة ايام ورزقت بطفل اسميته كمال وكان جميل الشكل وتعلق به الجميع وعند بلوغه الرابعة من العمر شاءت الاقدار ان يتوفى بمرض نادر واحتسبته وانا خاشعٌ لله وبعد سنتين رزقت بطفل ثانِ اسميته حسين ونشأ وسط رعايتنا وحبنا وعند بلوغه الثالثة توفي بنفس المرض فاصابني اليأس والاحباط وبعد مراجعة الطبيب اخبرني بان للقرابة صلة بهذا المرض النادر والوراثي فاصبنا بخيبة امل ولم نعد نطيق بعضنا البعض فقمت بتسريحها باحسان وتوافق ثم ابتسم وقال والان عرفتي يافائزتي لماذا احبك كل هذا الحب ؟

 

لاني رزقت بك بعد عشرين عاما من الزواج

إرسال تعليق

0 تعليقات