قصة " ريناد و المجهول حمزة" ج/٥

مشاهدات




نسرين ولها أديبة و شاعرة تونسية

سرحت ريناد في همهماته غير المفهومة مُحاولةً استنباط ما من شأنه أن يُعينها في البحث عن حقيقته، لعلّه رأى ذكرى تتعلّق بالطّيران أو المطار على نحو مُريبٍ فصمتَ و فضّل أن يكتم الأمر أو السّر.
فيما كان حمزة ساهمًا في أحلام يقظته دنت منه ريناد و أضافت :
-هل أنت بخير؟
تنهّد الرجل ملء رئتيه و أجاب :
-لقد رأيتني أقود طائرة في صورة خاطفة أومضت كالصاعقة في عقلي، أجل كنتُ ألبس الزيّ الرّسمي للطّيران !
-ماذا تقول ؟ هل أنت حقًّا "كابتن" ؟
-لا شكّ في ذلك ..كنتُ أنا ..واثقٌ من ذلك.
- إنّه لشيء رائع أن تكون طيّارًا ! ..و إنّها خطوة جيّدة نحو طريق الشّفاء إن شاء الله.. أمّا و الآن حضرة الكابتن يجب أن تخلد للنّوم و لا تُرهق دماغك بكثرة التّفكير، ثِقْ بأنَّ لِكلّ شيء أوانه ..هيَّا.. سأساعدك في تعديل وسادتك .. أحلامًا طيّبة.
-شُكرًا ريناد.
لَفظ اسمها دُون أيّمَا كلفةٍ، لم يقلْ الطّبيبة أو السيّدة أو الأخت أو الصّديقة وإنّما شكرها بلا وساطة. ومن جهتها، بدأ العياءُ يستبدّ بجسدها فكان التّدقيق في كيفيّة شُكره لها آخر همّها. كانت السّماء وقتها تستعدّ لاستقبال أولى انبعاثات الشّمس البرّاقة وكان لا بُدّ للمرأة أن تسترخي قليلاً حتّى وقت الضّحى.
استيقظ حمزة مع حلول العصر بحالٍ أحسن من أمس وفارق مضجعه باحثًا عن أهل البيت إذْ بَدَا له المكان خاليًا من الأصوات وعديم الحركة. غمرته موجة من الرّاحة النّفسيّة لمّا صالَ و جالَ في البيت. من كان يتصّور أنّ سعادة الأمير سوف يبتعد عن أسرته الحاكمة بهذا الأسلوب الغريب ويبيت في منزل الطبيبة ريناد و يبقى ليلة كاملة من دون خدم تحت إمرته، ليس هذا فحسب بل و سيلبسُ لباسًا على غير مقاسه و لِأناسٍ آخرين من باب الضّرورة القُصوى. لقد أضحى وحيدًا في عالم  يعرف عنه شيئًا نزرًا.
فتح حمزة باب البيت واجتاز العتبة مُتّجِهًا نحو الحديقة، ثم سار بضع خطوات إلى الأمام حيث ألفى نفسه في الشّارع. فجعل يتفقّد المكان بانتباه شديدٍ. كانت نوافذ البُيوت مفتوحة على مصاريعها لتفسح المجال للهواء النّقي أن يخترقها ويتغلغل في الغُرفِ، فيما كانت العصافير تُلوّح له بخفقات أجنحتها الرّقيقة فتُضفي الدّفْء والسّعادة على قلبه. وكان المارّة يلبسون لِباسًا غير مُطرّزٍ بخُيوطٍ رفيعةٍ أو مُبهرجٍ بزينةٍ باهظةٍ، و بالرّغم من تلك البساطة الجليّة كانت لنفوسهم هيبةٌ و حضورٌ وَضّاحٌ.
استغرق حمزة في المشيء ونسي نفسه و لمّا لامست أطراف أوراق غصنٍ مُتدلٍّ من شجرة التّوت اليانعة بشرته تنبّه لابتعاده الكبير عن مركز القرية فتسمّر في مكانه حائرًا، هل يُتابع المُضيّ إلى المجهول أم يعود إلى بيت السّيدة ريناد ؟ كان يشعر بالضّياع وذهنه يضجّ بالتّساؤلات الواحدة تلو الأخرى، لكنّها تتّفق جميعها على كيفيّة استرجاعه لذاكرته.
حينما أعمل عقله قرّر العودة إلى البيت الذي آنسَ منه إنسانيّةً. وكان قراره ذاك هو عينُ الصّواب. فالشّجاعة تتطلّبُ أن يتحمّل المرء القضاء والقدر أيضًا، لا أنْ يُدير ظهره فيقع في مصيدة مزيد من الأقدار الفظيعة كقصاص لهروبه، وإنْ كان لا بُدَّ من دفع ثمن لذلك الامتحان الرّبانيّ فليدفعْ إذًاَ.
من وراء ستائر المطبخ ، كانت ريناد تُجهّز العشاء و تتساءلُ في قلقٍ عن سبب تأخّر حمزة  في العودة حتّى أنّها حسبته قد غادرهم من دون رجعةٍ و بلا وداعٍ! إنّه مازال مريضًا بالنسبة لطبيبة مثلها و تهوّره في الخروج إلى الهواء الطّلق على تلك العَجَلةِ لا يُغتفر في حقِّ صحّته.
بغتةَ، لمحته من بلّور النافذة يقترب من باب الحديقة و يجرّ أقدامه في تثاقلٍ بيّنٍ فاطمئنّ بالها و عادت إلى مائدتها تُجهّزها بما لذّ و طاب من طعام فإكرام الضّيوف من شِيمها دومًا و تلك العادة الحسنة قد ورثتها عن جدّها.

على الساعة السابعة مساءً، كانت سُفرة العشاء مُزيّنة على نحو جذّاب يفتح الشّهية للأكل. كان ياسر وأخته يُسرى يجلسان على مقعديهما ينتظران أن تسمح لهما أمّهما بالبدْءِ. فيما تُحاول ريناد ترييثهما إلى حين حضور الضّيف. بعد بُرهة، دلف حمزة الغرفة وجلس بالقرب من ياسر. كانوا كلّهم يَتَوَارَوْنَ خجلاً من بعضهم البعض بينما تُثابر ريناد في تلطيف الأجواء بأسئلتها الرُّوتينيّة قائلةً:
-كيف وجدت الطعام كابتن حمزة؟
هزّ رأسه اِمتنانًا و أجابها:
-    طيّبُ المذاقِ.. أشعرُ أنّ طعمه ليس بِغريب عليّ!
-    حقًّا !
-    أي و الله.
أضاف ياسر وهو يلوك الطّعام:
-يجب أن تبقى أيامًا كثيرةً عندنا حتّى تتذوق من جميع الأطباق الشّهيّة التي تُعدّها أمّي ..ستُعجبك جدًّا.
التفت الجميع إلى كلامه الطّفولي في بهجةٍ واكتفى حمزة بابتسامة عريضة فقد كان يلتحف الصّمت و يطرق في التّفكير كثيرًا. لكنَّ ريناد قطعت انزواءه الفكريّ سائلةً:
-أراكَ مشغول البال منذ عودتك، ما الذي يجول في خُلدك يا حمزة؟
-ماذا سأفعل لأستعيد حياتي؟  لا يروق لي البقاء مكتوف اليدين و من دون عمل يحفظ ماء الوجه.. قُولي لي كيف السّبيل إلى ذلك يا ريناد؟
-هوّن عليك ..سنرتاحُ اللّيلة ثُم سنُفكّر في الحُلول غدًا إن شاء الله.

إرسال تعليق

0 تعليقات