التطهير وليس التشهير؟

مشاهدات





بقلم: الكاتب والباحث السياسي

الدكتور أنمار نزار الدروبي



إذا كان للحقيقة وجهان، فتاريخ الحكم الأموي ما يقارب ثمانية وثمانين عاما، وبداية الحقبة العباسية الأولى فإن الوجه الأول للحقيقة تمثل في التقدم والرقي للدولة وفي عنفوان الأمة، بينما كان الوجه الثاني ماثلا في الصراع على السلطة والمؤامرات الداخلية ومفاسد السلطان وتفكك مفاصل الدولة والتي تفاقمت وتأصلت أكثر في الحقبة الثانية من الحكم العباسي. وإذا أردنا أن نقرأ استراتيجيات وأيديولوجيات القوى السياسية في العراق فلن نستغني عن تراثها السياسي وتجاربها في المعارضة مع محيطها والظرف التاريخي، لكنّ هذا كله يتهاوى ليغدو أقرب الى العبث عند محاولة القراءة حيال تجربتهم في الحكم، حقا إننا بحاجة الى شيء من الكهانة وبعض البهلوانية في علم التنجيم وقراءة الكف أو تهجين العلوم السياسية بفرض الكثير من الغيبيات والتسليم بأنها وقائع على حساب أهداف السياسة.

من البديهي أن لكل شعب في العالم أحلام وتطلعات تعجز عقول الساسة عن أدراكها، وأخرى يمكن فهم دوافعها وبعض الأحلام لا يحترمها الساسة، أمّا كيف تغضب الشعوب على تجاوز نواميسها فالانتفاضات والاحتجاجات والثورات التي تكون أشبه بالزلازل والأعاصير تترجم ذلك الغضب. وفي معرض البحث عن سبب دوامة الغضب الذي حلّ بالشعب العراقي سيبرز الصراع بين القوى السياسية جميعا، لأن الأسباب تترابط تاريخيّا بين أغلب هذه القوى الى مستوى من العمق لا تعجز الرؤيا بدقة التحليل عن إدراكها. إذا حاولنا تفسير الصراع سيبرز الوصول إلى هرم السلطة كأهم الدوافع. من هنا سنفهم أسباب كل جوانب عرض المشهد التراجيدي لمسرحية التشهير بين الفرقاء السياسيين بكل تجليات فصولها المأساوية ابتداء من عام 2003 الى مانتج وتطور عنه في انهيار منظومة الدولة بكل مفاصلها، لنعترف صراحة إن كل الحسابات وتوقع الأحداث لم يعد متاحا خارج دوائر صناعتها. لذلك قد تسرح وسائل الاعلام خارج أبعاد رسم واقع الحدث، أو ربما يتم تسخير (بعض) الإعلام للتشويش وتشتيت الأذهان لكي يتم تمرير المياه تحت السطح. ثمة حقيقة تستوجب ألا نغفل عنها تُفيد بأن التطور النوعي لقضية التشهير بين السياسيين أنتج معه ما يشابه سباق التسلح بملفات الفساد، مما أجبر الزعماء والقادة فضيلة الابتعاد عن هذه الحرب الشرسة وتعويضه بحرب الوكالة من خلال تجنيد الجماعات سواء كانت سياسية أو إعلامية تؤدي وظيفة التشهير تعجز الجيوش الفتاكة أن تحققها.

ولعل بالرؤية العلمية وحدها يتضح أن البلد قد وصل إلى مفترق الطرق الكبرى وإلى حافة الهاوية، فمع اصرارهم على التشهير في أوقات الصراع السياسي، فقدوا القدرة على التطهير الفعلي، فتراكم الفساد وتفاقم انحدارنا، وبما أنه لا يمكن إقامة نظام سياسي سليم على أسس التشهير، إذن نحن بحاجة الآن لتطبيق منهج التطهير. لقد اتبعت الأغلبية، بمعنى الطبقة السياسية بدون استثناء فقه التشهير من خلال القنوات الفضائية، حيث أصبح تبادل الاتهامات والصاق تهم الفساد بين السياسيين مادة إعلامية دسمة. لكن المضحك المبكي في الأمر هو أن (بعض) القنوات الفضائية التي تتناول هذه المادة وهذا الفقه الميراثي هي أصلا قائمة على الفساد. وكان من الأجدر أن يتم الطعن وتبادل الاتهامات في الجلسات السرية لأنهم يدركون مخاطر هذا الفعل وما يترتب عليه من فتن تنعكس بالسلب على الوطن والمواطن. 

إن حالة التشهير وليس التطهير التي نعيشها اليوم وما فيها من تباين وتنابز هي من نتائج كيد السياسة، وكيد السياسة أسقط دولاً ومزق شعوباً. هذا هو الواقع المؤلم والأمر علني بالاسم والصورة على وسائل الإعلام يُذبح السياسي بيد أخيه السياسي ذبح الشاة ويمثل بجثته بأبشع صورة، حيث يصعب على المواطن البسيط التفريق بين الحق والباطل، ونصبح في جهلة وضلالة وربما نرى الحق باطلاً والباطل حقاً. فخطاب التشهير حول التنافس السياسي بين الفرقاء إلى معركة وجودية انتصارهم فيها يمثل انتصارا ً للكتلة أو الحزب، وخسارتهم تمثل هزيمة الحزب أمام خصومه، مع العرض أن خطاب التشهير نسق فكري واحد لكل الطبقة السياسية، ربما قد يختلف في درجة حَّدة الخطاب وتنوع الأداة.

بلا شك في أي مجال تعطي فيه سلطة مطلقة لابد أن يكون فيه انحراف وأخطاء وفساد، لكن المهم المتابعة والتصحيح والتقويم بالتطهير وبصورة مستمرة. وإذا كان الخلاف بين الفرقاء السياسيين أمرا طبيعيا، لكن ما نشاهده اليوم من تشهير غير مسبوق وتحديدا في قضايا الفساد فيما بينهم، هو عبارة عن صراع محتدم يكشف عن رخاوة الأسس التي قامت عليها كل التحالفات والتكتلات السياسية، لأن قضية التحالفات لا تعدوا كونها مذهب براغماتي تتحكم فيها المؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والثقافية. أما فلسفة التشهير في نظر الأقطاب المتصارعة هي السيف المسلط على رقاب الخصوم الذين كانوا بالأمس حلفاء. عليه هناك فرق كبير وبون شاسع بين التشهير وفضح الفاسدين ليس لأغراض المصلحة العامة وإنما لتحقيق مصالح حزبية وأغراض سياسية سلطوية، وبين العمل الحقيقي والجاد لتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين أيا كانت المسميات بعيدا عن الانتقام السياسي. سيما أن بناء المجتمع والوطن يحتاج إلى أيادي طاهرة نظيفة، وخاصة في هذا الوقت العصيب الذي يمر به العراق، لأن الشعب قد سئم من عبارات وكلمات وشعارات محاربة الفساد، تلك الشعارات التي لا تمثل سوى مجرد أحرف نطقت بها ألسنة الساسة والتقطتها آذان ملايين العراقيين. من هنا يحتاج المواطن العراقي إلى تجربة فريدة في بناء الدولة والعطاء وخدمة الوطن، وهذه لا تتحقق إلا إذا سبقتها سياسة التطهير الشامل والعادل للفساد والفاسدين. بيد أن سياسة التشهير هذه لن تلغي حقيقة أن السياسي الفاسد استطاع أن يفرض حضوره متجددا في كل ممارسة انتخابية كفاعل كبير في صوغ مشهده العام وفي توليد ديناميات جديدة في عمله السياسي، بحيث لم يعد من الممكن التعبير الموضوعي عن حالة الحراك السياسي في العراق بمعزل عن الفاسدين.

وتأسيسا لما تقدم، لقد بات التشهير أداة من أدوات التخاطب السياسي بين الفرقاء، وإن من يقوم بهذه المهمة فهو ثائرا ومجاهدا في عيون أنصاره وكتلته السياسية، وكذاب وعديم المهنية ويجب محاسبته في عيون الخصوم، وسيبقى التشهير مشروعا في نظر جميع الفرقاء، وستبقى محاولات التخلص من التشهير تتعثر تحت وطأة التقاء السياسة بالفساد.







إرسال تعليق

0 تعليقات