العراق: هل تضع أحزاب اللاهوت والميليشيات سياقات المرحلة المقبلة؟

مشاهدات



د. باهرة الشيخلي


مسرحية الانتخابات انتهت واختفى الممثلون خلف جدران الخديعة ليبدأ تقاسم الكعكة، كعكة السلطة التي لها معنى واحد في العراق المحتل هو السرقة والنهب بوسائل معروفة وأخرى مبتكرة يخترعها العقل المرتزق.

المشهد ذاته يتكرر منذ 2005

عَكَسَ تقييم النتائج الأولية للانتخابات التي جرت في العاشر من الشهر الحالي في العراق بوضوح تعبير العراقيين عن احتجاجهم ضد سياسات الفساد المالي والإداري، برفضهم التصويت بانتظار سقوط وهزيمة الأحزاب القمعية التقليدية المتخلفة التي تقود المجتمع من خلال تغذية مافيات الجريمة المنظمة ونشر الحروب والفوضى وتكريس الفقر والتشرد والجوع والأمراض.

واستناداً إلى تسجيلات صوتية ومقاطع مصورة (صوتا وصورة) وصور من العشرات من المراكز من مختلف أنحاء العراق، وشهادات شهود عراقيين وظّفتهم المفوضية العليا للانتخابات لقاء رواتب ومكافآت يومية، تبين أن أعلى نسبة مشاركة لم تتجاوز 11 في المئة.

وإذا حللنا النسبة الفعلية (11 في المئة) فسيظهر أن عدداً مهماً من نسبة المشاركين حضر ليس للانتخاب، بل لإسقاط الاستمارة الانتخابية، إما بوضع علامة (X) عليها أو بوضع أسماء زيادة عليها، مما يؤدي إلى بطلان الاستمارة، وكان عدد كبير من المقترعين من شريحة كبار السن ومن شرائح بسيطة لا تجيد حتى كتابة أسماء المرشحين، أي من الناس الذين يسهل تضليلهم وخديعتهم، كما أن عدد المراقبين الأجانب والعراقيين الذين زاروا مراكز الاقتراع كان في الغالبية المطلقة أكثر بكثير من المقترعين، ومعظم المراقبين والإعلاميين، وبالذات الأجانب، بثوا تقارير إلى دولهم تؤكد أن الانتخابات فاشلة والإقبال عليها يؤكد الهوة السحيقة بين شعب العراق وبين سلطة المنطقة الخضراء، وكانت أخطر الخدع التي لجأوا إليها هي احتساب النسب على أساس عدد من تسلم البطاقات وليس على أساس عدد من يحق لهم الانتخاب، والفرق بين طريقتي الاحتساب هائل جداً.

قد يكون في هذا الكلام الذي استقيناه من أحد المواقع الإلكترونية مبالغاً فيه، لكن الحقيقة أن العزوف العراقي عن المشاركة كان كبيراً جداً، وأن الأرقام التي أعطتها المفوضية العليا للانتخابات كانت المبالغة فيها واضحة، وربما كان ذلك بسبب ضغوط مارستها جهات سياسية، فقد أفادت مصادر صحافية نقلاً عن مسؤولين حكوميين اثنين في العاصمة بغداد، أحدهما مقرب من رئيس الحكومة، ما وصفاه بضغوط مارستها قوى سياسية حققت نتائج متواضعة في هذه الانتخابات تعرض لها أعضاء مفوضية الانتخابات، مؤكدين أن “اتهامات بالتزوير واستهداف الحشد الشعبي و(محور المقاومة الإسلامية) و(التعاون مع مخطط خارجي)، عبارات سيقت في الساعات الماضية على أسماع عدد من أعضاء مجلس أمناء المفوضية واضطر كثير منهم لإغلاق هاتفه والبقاء داخل المنطقة الخضراء”، بعد شعورهم أن “الضغوط تستهدف إرغامهم على تغيير نتائج الانتخابات”.

هذا يبين أن هذه الانتخابات فضيحة مدوية لم يسبق أن حدث مثيل لها في الدورات السابقة.

المهم أن مسرحية الانتخابات انتهت، واختفى الممثلون خلف جدران الخديعة ليبدأ تقاسم الكعكة، كعكة السلطة التي لها معنى واحد في العراق المحتل هو السرقة والنهب بوسائل معروفة وأخرى مبتكرة يخترعها العقل المرتزق أو يشتريها من رعاة الحفل الراقص على بؤس العراق وشقاء العراقيين، وليمدد الاحتلال الإيراني المتوحش للعراق لحقبة أخرى.

ظنّ مخرجو المسرحية وممثلوها أن انتهاء لعبتهم بإغلاق صناديق الفجيعة سيدفن ثورة أكتوبر التي عجز القتل والاعتقال والإعاقات الجسدية والتهجير عن دفنها، وما علموا أن هذه اللعبة منحت هذه الثورة وقوداً جديداً سيشعلها من جديد، فالعزوف العراقي الواسع مؤشر على بداية نهاية العملية السياسية بانطلاقةٍ متجددة للشباب العراقي الذي فجر ثورته في أكتوبر 2019.

نحن أمام جيل جديد من الشباب الذين انتصروا على الخوف وسياسات الإرهاب المافيوي.. جيل يعي أن لا فرق بين إرهاب دولة الخلافة وإرهاب مافيات الجريمة التي اغتالت ريهام في البصرة واغتالت أم عباس في الناصرية، واغتالت النشطاء والكتاب، كما يفعل داعش الإرهابي. الشباب العراقي الثائر هو الذي سيواجه مافيات الجريمة وتهريب المخدرات والنفط وتبييض الأموال، فهو جيل المستقبل الذي سيقود العراق نحو دولة المؤسسات والفصل بين السلطات وضمان الديمقراطية والحقوق.

من الضروري الإشارة إلى ما قاله الدبلوماسي السابق الدكتور غازي فيصل حسين، مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، إن حكومة مصطفى الكاظمي جاءت لتلبية مطالب ثوار تشرين ولكنها فشلت في تصفية الفساد ولم يحل قادة المافيات إلى العدالة لاسترجاع المليارات ومعالجة البطالة والفقر وإحالة القتلة والمجرمين الذين اغتالوا أكثر نحو ألف من الشباب العراقي بالإضافة إلى ضحايا الانتفاضة الذين يقدر عددهم بـ20 ألفا من الشباب في البصرة والعمارة والنجف وكربلاء والناصرية وبغداد، والانتهاكات الخطيرة مما يدفع شباب تشرين للاستمرار في التعبير عن غضبهم في مواجهة الظلم والقهر والاستبداد.

إن أي حكومة ستفرزها هذه الانتخابات في ظل الظروف الحالية لن تتمتع إلا بالقليل من الشرعية ولن يكون لديها بالتأكيد إجابات عن المشكلات السياسية والاقتصادية المزمنة التي يواجهها العراق، إذا حاول المجتمع الدولي النظر إلى هذه الانتخابات على أنها نجاح، فإنه يتجاهل العنف الذي أعاق الحملة ورفض الشباب الذين يشعرون بالعزلة للمشاركة.

وحسب الناشط والكاتب السياسي شاكر كتاب فإن الأحداث التي رافقت عملية الانتخابات الأخيرة في العراق أثبتت أن ما يسمى بالديمقراطية التي تمارسها القوى المتسيدة إنما هي أكذوبة تستعمل عند الحاجة وعندما تتعارض يوما ما مع مصالح السياسيين المشاركين في العملية السياسية تنقلب وبالاً على البلاد، فضلاً عن أن المفوضية، هي الأخرى، تمكنت من أن تثبت للجميع أنها حلقة زائدة لا نفع لها سوى التكاليف المالية العالية وذر الرماد في العيون لتغطية عملية انتخابية فاشلة غير حقيقية أبدا.

من الناحية المعاكسة فإن الشعب العراقي قال رأيه صراحة بهذه الانتخابات وبالقوى التي تتغطى بها. فالمقاطعون رفضوا المشاركة لأنهم، كما قالوا صراحةً، لا يثقون بأية إمكانية للتغيير أو الإصلاح وهم متأكدون من وقوع التزوير وحرف إرادة الناخبين. أما المشاركون وبالرغم من قلتهم الواضحة فلقد حجبوا أصواتهم عمن لم يف بوعوده سابقا وعمن تلهى بالامتيازات والمنافع والمصالح الخاصة والضيقة فراحت الأصوات لقوى وشخصيات أخرى ولوجوه جديدة لم تتدنس بالسحت الحرام، وهذا ما أشار إليه عدد المستقلين الفائزين الذي بلغ الأربعين نائباً جديداً، ثم أن فوز الناشطين من حراك أكتوبر المتمثلين بمجموعة امتداد له دلالة أكثر خطورة، بالرغم من أن حراك أكتوبر يعدهم منشقين عنه، فالشعب يصطف إلى جانب الشخصيات التي لا تنحدر من الكتل السياسية المتحكمة وإلى جانب ثوار أكتوبر. والشعب ينتظر من هؤلاء وأولئك أن يثبتوا مصداقيتهم في ما أعلنوه في الشعارات التي رفعوها.

ختاماً، فإنه بانقضاء كوميديا الانتخابات عاد المدججون بالأسلحة والأساطير، والمشهد الهزيل ذاته يتكرر منذ انتخابات 2005، التزوير واقتسام المغانم والشروط المتبادلة بين الكتل لقضم ما بقي من جسد العراق، وسيمضي قطيع الذئاب إلى غابة (البرلمان) لتبادل المنافع وتوزيع العقود، عبر وزارات المحاصصة واللجان الاقتصادية في مؤسسات الدولة وستتولى أحزاب اللاهوت وميليشيات الحشد الشعبي وضع سياقات المرحلة المقبلة ومن أولوياتها تصفية الحراك الوطني وإنهاء خطوط ثورة شباب أكتوبر، إلا أن ذلك سيكون المستحيل بعينه.


إرسال تعليق

0 تعليقات