قراءة في أبعاد وخلفيات تصريحات الرئيس مـاكرون حول الجزائر

مشاهدات



الدكتورة جعفر صبرينة - المختصة في شؤون الأمن وسياسات الدفاع

الأستاذ الدكتور حكيم غريب - الخبير الأمني والاستراتيجي


تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية توترات، يمكن وصفها بأنها غير مسبوقة، وصلت إلى استدعاء الجزائر لسفيرها من باريس، للمرة الثانية، وحظر الطائرات العسكرية الفرنسية التحليق في أجواء البلاد، حيث يأتي قرار الحظر الجوي للطائرات العسكرية بعد استدعاء الجزائر لسفيرها في باريس، محمد عنتر دواد، للتشاور، بعد تصريحات نسبتها وسائل إعلام فرنسية للرئيس إيمانويل ماكرون تناول فيها نظيره الجزائري، عبد المجيد تبون ونظام الحكم في الجزائر.


وحسب مقال لصحيفة "لو موند" يتعلق الكلام الذي نسب لماكرون باجتماع عقد الخميس بين الرئيس الفرنسي وشباب من أحفاد أشخاص شاركوا في حرب استقلال الجزائر (1954-1962)، اعتبر فيه أن الجزائر قامت بعد استقلالها في 1962 على "إرث من الماضي" حافظ عليه "النظام السياسي العسكري.


وتحدث ماكرون، حسب الصحيفة، عن "تاريخ رسمي أعيدت كتابته بالكامل (...) ولا يستند إلى حقائق" بل إلى "خطاب يقوم على كراهية فرنسا وفي لهجة اتخذت الجزائر خطوات قوية وشجاعة كرد فعل عن تمادي ماكرون في استفزاز الأمة الجزائرية بقيادتها ومؤسستها العسكرية فقد صرح يوم الأحد الناطق باسم هيئة الأركان العامة الفرنسية، أن الحكومة الجزائرية حظرت على الطائرات العسكرية الفرنسية التحليق فوق أراضيها، علما أنها تستخدم عادة مجالها الجوي لدخول ومغادرة منطقة الساحل حيث تنتشر قواتها في إطار عملية برخان.


إن المواقف الجزائرية الأخيرة تأتي كرد الفعل الطبيعي على كلام ماكرون الذي انتقد فيه نظام الحكم في البلاد.


وقالت رئاسة الجمهورية الجزائرية إنه على خلفية التصريحات غير المكذبة لعديد من المصادر الفرنسية والمنسوبة للرئيس الفرنسي، ترفض الجزائر رفضا قاطعا أي تدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما جاء في تلك التصريحات، غير أن إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الفرنسية العسكرية هو أمر لم يحصل في السابق، حيث أن الجزائر سمحت للطائرات العسكرية الفرنسية بعبور أجوائها منذ العام 2013، وهذا التصعيد بحد ذاته غير مسبوق هذا من جهة، من جهة أخرى، فإن هذه المرة الثانية التي تستدعي الجزائر سفيرها لدى باريس هذا العام، حيث استدعت في ماي 2020، سفيرها صلاح البديوي على أثر بث فيلم وثائقي حول الحراك للنظام في الجزائر على قناة "فرانس 5" والقناة البرلمانية.


لماذا يشكك ماكرون الآن في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للجزائر؟


تبدو العلاقات بين الجزائر وفرنسا، وكأنها تتحرك من أزمة إلى أزمة، خلال الفترة الأخيرة، أما هذه الأزمة الأخيرة، فقد فجرتها التصريحات المنسوبة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والتي نقلتها صحيفة "لوموند" الفرنسية، وهي تصريحات، التي لم تتوقف عند حد انتقاد النظام السياسي الجزائري، وإنما امتدت لتطال كيان الأمة الجزائرية وتاريخها، بكل ما يحويه من جدل حول الحقبة الاستعمارية، والتي خضعت فيها للاستعمار الفرنسي. 


كان الرئيس الفرنسي، قد شكك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد، عام 1830 متسائلا: "هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟ وقال ماكرون خلال لقاء له مع مجموعة من الطلبة الجزائريين، ومزدوجي الجنسية في باريس، إن الرئيس الجزائري رهين لنظام متحجر، مضيفا أنه "يجري حوارا جيدا مع الرئيس تبون، مضيفا بالقول "أرى أنه عالق في نظام شديد التصلب.


وبعيدا عن انتقاد ماكرون، للنظام السياسي الجزائري، وأسلوبه في الحكم فإن التصريح الذي أثار ضجة واسعة، وردود فعل سواء على المستويين الرسمي والشعبي في الجزائر، كان ذلك المتعلق بتشكيكه، في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي للبلاد، أما رد الفعل الرسمي الجزائري، فقد جاء قويا ومدويا بعد نشر تصريحات الرئيس الفرنسي، حيث إذ أعلنت الجزائر السبت 2  أكتوبر، استدعاء سفيرها لدى فرنسا للتشاور، واصفة تصريحات الرئيس الفرنسي بالغير   مسؤولة.


إن تصريحات الرئيس الفرنسي الأخيرة بشأن الجزائر، وكذلك القرار الأخير، بشأن تقييد منح التأشيرات لدول المغرب العربي الثلاث، الجزائر والمغرب وتونس، يندرج ضمن مساعي الرئيس، لمغازلة جمهور أحزاب اليمين المتطرف من الناخبين الفرنسيين، قبيل الانتخابات الرئاسية القادمة، التي يتوقع أن يرشح فيها ماكرون نفسه والمقرر إجراؤها في إبريل من العام القادم ووفق تقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية، فإن بعض أحزاب اليمين المتطرف في فرنسا، يعتبرون أن قرار تقييد منح التأشيرات، يهدف إلى استقطاب ناخبيها في الانتخابات القادمة، وتساءل البرلماني اليميني، أورلين برادي، عن مغزى توقيت هذه الخطوة، مع اقتراب الانتخابات الفرنسية، مضيفا في تصريحات صحفية تتهافت الحكومة في الوقت الحالي لإظهار قدر أكبر من الصرامة والسلطة.


إن الرئيس الفرنسي، يواجه معضلات داخلية تتعلق بالبطالة والاقتصاد، وأنه لم يحقق الكثير مما وعد به الفرنسيين، ومن ثم فهو يسعى إلى مغازلة جمهور الناخبين، بقضايا تدغدغ مشاعرهم، فيما يتعلق بالمرحلة الاستعمارية، واستغلال قضايا المهاجرين لفرنسا، أملا في كسب أصوات ناخبي الأحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تركز خطابها تقليديا على تلك القضايا.


- الأسباب والدوافع


في المقابل، هناك شيء يحدث في كواليس العلاقات الجزائرية الدبلوماسية، التي تشهد توترات غير مسبوقة، كأن الأمور اختلفت مع فرنسا، وغيرها من الدول، ونرى أن قطع العلاقات مع فرنسا قد تكون مخاطرة حقيقية في ظل التحديات الأمنية التي تمر بها المنطقة والجزائر بالدرجة الأولى  فقرار حظر الطيران العسكري سيحمل أضرارا كبيرة على فرنسا، التي لديها التزامات عسكرية بالتواجد في مالي، وهي بالعادة تعبر الأجواء الجزائرية، من جهة أخرى لا يخفى على أحد دخول لاعب قوي للمنطقة وهو روسيا التي باتت لها موطئ قدم في وسط أفريقيا، وتحديدا في مالي وهذا أقلق فرنسا.


وتعمل روسيا بشكل مطرد على زيادة تواجدها في جميع أنحاء أفريقيا باستخدام المزيد من الأنشطة الاقتصادية والدبلوماسية التقليدية، بالإضافة إلى المزيد من الأساليب عبر مجموعة فاغنر، حيث تسعى إلى زيادة الوصول إلى احتياطيات الموارد الطبيعية الغنية في القارة، بحسب تقرير لمجلة "فورين بوليسي"، ولا ننسى أن العلاقات الجزائرية الروسية دائما متميزة، وهي قائمة بمعزل عن فرنسا،  ونعتقد أن التواجد الروسي في المنطقة يعطي للجزائر ضمانة أكبر لحمايتها من المجموعات الإرهابية والمتطرفة.


وحول الأسباب التي دفعت الرئيس الفرنسي الإدلاء بهذه التصريحات، أن ماكرون انساق وراء خطابات اليمين المتطرف الذي يبرز الآن في الساحة السياسية الفرنسية، وبالتالي يريد كسب الرهان والناخبين عبر الدخول في ملفات، أبرزها الهجرة وما نتج عنها من خفض للتأشيرات، الأمر الذي دعا الجزائر للتحرك خاصة ان ماكرون ولأول مرة منذ تربعه على دفة قصر الإليزيه قبل أكثر من أربع سنوات، لم يتجرأ على توصيف السلطات الجزائرية بتلك العبارات التي وظفها في لقائه بـ18 شابا من أصول جزائرية ومن أحفاد “الحركى” و”الأقدام السوداء”، في إطار حملته الانتخابية غير الرسمية للانتخابات الرئاسية المرتقبة ربيع العام المقبل.


كان واضحا من خلال كلام الرئيس الفرنسي، أن مشروعه الموسوم بـ”تهدئة صراع الذاكرة”، والذي أوكله للمؤرخ الفرنسي، بنجامان ستورا، لم يؤت أكله لحد الآن، وهو الذي راهن عليه منذ انتخابه في عام 2017، لأن الطرف الجزائري لم يساير الخطوات الفرنسية التي بقيت من جانب واحد، فيما بدا تحفظا عن المشروع وعما قام به ستورا على صعيد الذاكرة، الذي يعتبر ملفا جد حساس بالنسبة للجزائريين.


كما رافق ذلك بروز عدة مؤشرات خلال الأشهر الأخيرة على تعثر العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، من خلال خسارة شركات فرنسية كبيرة مواقعها المتقدمة بالسوق الجزائري وبلغة الأرقام، إذا استثنينا 2020 باعتبارها سنة جائحة كورونا، نجد فرنسا خلال 2019 هي المورد الثاني للجزائر بعد الصين، بصادرات تقارب 6 مليارات دولار، تهيمن عليها مبيعات الحبوب والأدوية والسيارات والوقود، إضافة إلى وجود 8 آلاف شركة فرنسية تُصدّر منتجاتها وخدماتها إلى الجزائر، مقابل صادرات جزائرية وصلت عام 2019 إلى 5 مليارات ومئة مليون دولار، لكن 95% منها تتكون من الهيدروكربونات النفط الخام والغاز الطبيعي وغاز البترول المميع، وخلفيات وآفاق اقتحام العملاق الصيني للسوق الجزائرية، بالنظر إلى ثقل  التاريخي للجزائر وتوجهها السيادي، مقارنة بالكثير من الدول الأفريقية الأخرى.


نعتقد أن الجزائر الجديدة يمكنها في إطار تحالفها الطبيعي والتاريخي مع الصين قيادة قاطرة التطور الاقتصادي، الذي تتزعمه بكين تحت مبدأ بدل أن تعطيه سمكة علّمه الصيد، وهو أمر مختلف تماما عن ثقافة باقي المتدخلين الاقتصاديين الغربيين القائمة على الاستغلال ونظرا لموقعها الاستراتيجي في أفريقيا وموازاتها لجنوب أوروبا، فإن الجزائر اليوم محل أنظار القوى الاقتصادية العالمية، ويأتي مشروع ميناء شرشال الكبير كدعم لسياسة التعاون الجزائري الصيني، الذي يجعل جنوب أوروبا متلاحما مع شمال أفريقيا ووسطها.


زيادة عن ذلك لطالما شكلت "ملفات الذاكرة" المرتبطة بالحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر (1830 ـ 1962)، نقطة لتوتر دائم في العلاقات بين البلدين؛ بسبب رفض باريس الاعتراف بجرائمها الاستعمارية، كما أن مستجدات المشهد السياسي الجزائري، منذ الإطاحة بالرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة (1999-2019) ومجيء خلفه عبد المجيد تبون نهاية 2019، كانت مصدرا للتوتر في العلاقات الثنائية، خلال الأشهر الأخيرة، بسبب اتهامات محلية لباريس بالتدخل في الشأن الداخلي.


في الأخير يمكن القول، أن فرنسا لم تتخلص بعد من عقدتها الاستعمارية، فحملة ماكرون لانتخابات الرئاسة أصابته بلوثة خطيرة تزلفا لليمين المتطرف كما ان ومنذ فترة، تشهد العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الجزائر وباريس توترا وفتورا رافقهما نزيف اقتصادي لدى شركات فرنسية غادرت البلاد ولم تجدد السلطات الجزائرية عقودها.


تبقى تصريحات ماكرون استفزازية وخطيرة تمس بسيادة الدولة الجزائرية، وإهانة لرموزها وشعبها وتدخلا مرفوضا في شؤونها الداخلية، وهذا إن دل عن شيء يدل عن زيف علاقة الصداقة المزيفة، ففرنسا لم تتغير بالأمس واليوم ولن تتغير غدا. وهي بمثابة تزييف للتاريخ واعتداء واضح على سيادة الدولة وتدخل في شؤونها الداخلية  فالفرنسيين يستخدمون ملف الذاكرة من أجل التوازنات الداخلية وحملة انتخابية مسبقة، كما أن جرائم فرنسا الاستعمارية، التي لا تعد ولا تحصى، هي إبادة ضد الشعب الجزائري، وهي غير معترف بها (من قبل فرنسا)، ولا يمكن أن تكون محل مناورات مسيئة. 


يمكن ربط خطوة "الإليزيه" بـ"الحسابات الانتخابية الداخلية"، رغم  اعترافنا بشجاعة الموقف الجزائري القوي والمزلزل، والذي يدعو إلى التفاؤل لكبح التصرفات الفرنسية في فن الرد من القيادة الجزائرية التي خرجت من الدبلوماسية الهادئة إلى الدبلوماسية الهجومية والردعية.


إن التصعيد الدبلوماسي بين الجزائر  وباريس، سبقه توتر على خلفية قرار باريس خفض عدد التأشيرات الممنوحة للمواطنين الجزائريين، ما يرسم تساؤلا حول مستقبل العلاقات بين الدولتين، في ظل المطالب الشعبية بقطع العلاقات مع باريس ربما الذهاب خطوات اكثر جراءة و قوة مستقبلا في وضع  حدا قاطعا للوصاية الفرنسية على الجزائر  مهما كانت النتائج والعواقب.

إرسال تعليق

0 تعليقات