عمر سعد سلمان
يختلف مدى تأثير الوضع الاقتصادي للمجتمع في تبنيه قيماً اجتماعية معينة، فهناك عاملين أساسيين يؤثران في المجتمع هما الطبقة البرجوازية والقدرة الصناعية للمجتمع. ولكنهما يختلفان في التأثير تبعاً لنوع المجتمع (متقدم او نامي).
ففي المجتمعات المتقدمة قامت الطبقة البرجوازية فيها على أنقاض النظام الاقطاعي التي استطاعت بعد انهيار ذلك النظام بما يحمل من قيم، ان تغرس في المجتمع قيماً جديدة ذات طابع مادي أصبحت لها الأولوية على باقي القيم الدينية والاجتماعية، وانعكست تلك القيم في السلوك السياسي في المجتمعات المتقدمة من حيث طبيعة الأحزاب السياسية والتنظيمات المختلفة.
فقد عملت الطبقة البرجوازية في المجتمعات المتقدمة على جعل الدولة الإطار القانوني والتنظيمي اللازم لنمو علاقات الإنتاج وازدهارها.
اما في المجتمعات النامية فان طبيعة الدور الذي تقوم به الطبقة البرجوازية فيها يختلف عن الدور الذي تقوم به تلك الطبقة في المجتمعات المتقدمة، ذلك لان القيم التي نقلتها الطبقة البرجوازية التي قامت في المجتمعات النامية المأخوذة من القيم البرجوازية العالمية اصطدمت مع طبيعة القيم التي تحملها المجتمعات النامية، فالطبقة البرجوازية فيها لم تعكس واقع المجتمع الذي قامت فيه بقدر ما عكست واقع وقيم المجتمعات المتقدمة، مما أدى الى ازدواج القيم والتصادم القيمي بين القيم المادية التي تحملها الطبقة البرجوازية وبين القيم الاجتماعية ذات الانتماءات الفرعية (الدينية والطائفية والعرقية والقبلية)، فالمجتمعات النامية لم تغير قيمها ولم تستطع التنازل عنها بل أصبحت اكثر تمسكاً بقيمها الفرعية، وعكست تلك القيم في سلوكها السياسي بسبب قدرتها على التعايش مع القيم الوافدة التي تحملها الطبقة الرجوازية، وعدم قدرة الأخيرة على تحقيق متطلبات واهداف تلك المجتمعات، كما حصل في المجتمعات المتقدمة.
فالدور الذي تلعبه الطبقة البرجوازية في المجتمعات النامية دور ضعيف وغير قادر على تغيير وتفصيل حركة المجتمع نحو الامام، ولم تستطع قيادة المجتمع وتحريك القاعدة الاقتصادية، بسبب عدة عوامل منها الطابع الثقافي للمجتمع، وعلاقة الطبقة البرجوازية بالسلطة وعلاقتها بالمجتمع وعلاقتها بالطبقة البرجوازية العالمية، وعدم قدرتها على تحقيق مطالب المجتمع، وظلت أداة في خدمة الأنظمة السياسية في المجتمعات النامية، اذن فلم تلعب الطبقة البرجوازية دوراً في قيادة التغيير الاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات النامية، وهذا أدى الى ان تتحكم قلة قليلة العدد من العسكريين والبيروقراطيين في شؤون المجتمع.
مثل تلك الأمور تجعل إمكانية قيام طبقة متوسطة (برجوازية) في المجتمعات النامية قادرة على تغيير الواقع الاجتماعي تبدو صعبة نوعاً ما، نظراً لقوة تماسك القيم الاجتماعية داخل المجتمع وقوة تماسك الانتماءات الاجتماعية المحلية، مما جعل القيم التي تعكس الانتماءات الاجتماعية المحلية تعلو في السلوك السياسي على القيم التي تقوم عليها الطبقة البرجوازية.
اما بالنسبة للقدرة الصناعية للمجتمع، وطبيعة البنية التحتية للمجتمع وأثرها في تفضيل قيم معينة على أخرى.
ففي المجتمعات المتقدمة (أسهم التطور العملي والتكنولوجي واختراع الآلة البخارية في ظهور النظام الاقتصادي الرأسمالي على أنقاض نظم اقتصادية أخرى أهمها النظام الاقطاعي، واهم ما يميز النظام الاقتصادية في المجتمعات المتقدمة هو حلول الشركات ذات الإدارة الجماعية محل المؤسسات الحرفية الصغيرة القائمة على المبادرات الفردية الا في حدود ضيقة تخضع للتخطيط الاوسع).
ان طبيعة التطور الصناعي افرز قيماً جديدة داخل المجتمعات المتقدمة تركز على المنفعة المادية والاسس المادية في تقسيم المجتمع وانعكس ذلك في السلوك السياسي للمجتمعات المتقدمة. وبالرغم من إيجابيات هذا التطور الا ان الوجة الاخر لهذا التطور كان سلبياً، فالحاجة الى الايدي العاملة الرخيصة لزيادة الإنتاج أدت في القرن التاسع عشر الى استخدام النساء والصبيان في اعمال التعدين والصناعة الشاقة، مما أدى الى إصابة الكثير من الصبيان بالشذوذ والجنون نتيجة لظروف العمل القاسية آنذاك، وتم تجاوزها بمرور الوقت، وظلت القيم الاجتماعية هي قيم الليبرالية والمنفعة المادية والحرية الاقتصادية، وأصبحت تشكل الاطار لطبيعة القيم التي تحملها المجتمعات المتقدمة في الوقت الحاضر التي انعكست في السلوك لتلك المجتمعات.
ان قوة التنظيم الاقتصادي وازياد التطور الاقتصادي أدى الى زعزعة استقرار الانتماءات والقيم المحلية، واصبح الولاء للقيم العامة الشاملة التي لاقت قبولاً واعترافاً من المجتمع بسبب قدرتها على عكس متطلبات افراد المجتمع وتحقيق أهدافه، وتعود تلك القدرة الى وجود المؤسسات العلمانية والاقتصادية القائمة على المنفعة والمصالح، مما يجعل الفرد اقل رغبة في الانضمام لجماعة اجتماعية دينية او مذهبية والتعبير عن قيم تلك الجماعة، فيظل الانتماء ذو الطابع الاقتصادي والمادي الذي يأخذ شكلاً طبقياً في الغالب اقوى من الانتماءات الاجتماعية الفرعية وتتغير أولويات القيم لدى الفرد من القيم المعنوية الى القيم المادية ويعكس ذلك في سلوكه السياسي، لعل هذه السمة الغالبة في المجتمعات المتقدمة.
0 تعليقات