عضوية العراق في عصبة الامم هل هي عيد للاستقلال ؟

مشاهدات




د. محمد مظفر الادهمي


تابعت عددا من المقالات وندوة حول محاولة تحديد يوم معين ليكون عيدا للاستقلال في العراق ، ووجدت ان هناك اتجاها لاعتباردخول العراق عضوا في عصبة الامم يوم 3 تشرين الاول 1932 عيدا وطنيا اوعيدا للاستقلال دون اعتبار للمناسبات التي كان العراقيون يحتفلون بها اعيادا وطنية لسنين طوال وفي مراحل مختلفة . ومع ذلك فأن قبول العراق في عصبة الامم يشكل مرحلة مهمة من تاريخه حين انتهى الانتداب البريطاني ، واصبح المندوب السامي البريطاني في العراق سفيرا في بغداد ،ولم يعد هناك مستشارين بريطانيين للوزراء العراقيين ،كما تخلص الملك فيصل الاول من عبيء تدخل المندوب السامي ومستشار الملك البريطاني وفرض كثير من القرارات والتي كان يقاومها لدرجة ان المندوب السامي طلب من حكومته في لندن ان تخلعه من عرش العراق ، بل انهم هددوه مباشرة بذلك ، ولذلك اطلق السياسيون والباحثون والمؤرخون العراقيون على هذه المرحلة اسم (الحكم المزدوج ) ، وهذا ما تثبته الوثائق الموجودة في دار الوثائق البريطانية لوزارة الخارجية في لندن.

ان دخول العراق عضوا في عصبة الامم عام 1932 قد كان حصيلة كفاح طويل وعلى مدى احدى عشر عاما قاده الملك فيصل الاول والنخبة السياسية العراقية التي حكمت العراق ، ولكن هل حقق العراق فعلا استقلاله التام ؟ ولنبدأ اولا بالقانون الاساسي العراقي(الدستور) الذي اصر المندوب السامي ان لاتتقاطع مواده مع بنود المعاهدة العراقية البريطانية الاولى التي تضمنت بنود الانتداب و التي رفض المجلس التاسيسي تصديقها فهددهم المندوب السامي بضياع الموصل واعطائها الى تركيا وحل المجلس بالقوة اذا لم يصادقوا المعاهدة ، وعندما صادقها المجلس مجبرا في جلسة طارئة فرض المندوب السامي ان لا تتقاطع مواد الدستور مع مواد المعاهدة الانتدابية الذي ناقشه المجلس واقره بعد تصديق المعاهدة الانتدابية ، وهذا يعني ان البريطانيين قد جعلوا من دستور العراق وسيلة لاستمرار الانتداب بشكل غير مباشر . واذا ما ذهبنا الى معاهدة 1930 التي فرض الانكليز عقدها مقابل دخول العراق عضوا في عصبة الامم ، فقد اقرت وجود قاعدتين عسكريتين بريطانيتين في الحبانية والشعيبة ،وسمحت لبريطانيا ان تنزل قواتها في الاراضي العراقية عند الحاجة العسكرية ، مما كان له اثره في تسهيل الاحتلال البريطاني الثاني للعراق خلال الحرب العالمية الثانية ،والذي استمر من عام 1941 الى عام 1945 سيطرت فيه بريطانيا على العراق تماما في الجانبين العسكري والسياسي ، واستمر نفوذها السياسي واضحا رغم رحيلهم بعد الحرب وحتى نهاية الحكم الملكي في العراق .

ولضمان المصادقة على معاهدة 1930 فقد قام رئيس الوزراء نوري السعيد بحل البرلمان العراقي ،واجراء انتخابات جديدة تحت اشرافه للمجيء بمجلس يصادق على المعاهدة بسهولة ،وقد وَجدتُ في الوثائق العراقية الخاصة بوزارة الداخلية والوثائق البريطانية دلائل واضحة ومفضوحة عن تزوير الانتخابات .

الموقف الرافض للمعاهدة

أصبحت مواد المعاهدة العراقية- البريطانية الجديدة القضية المركزية في انتخابات 1930م . فقد وقفت ضدها المعارضة بقوة لأنها حسب اعتقادهم وسيلة لاستبدال الانتداب باحتلال بريطاني دائم. إضافة إلى هذا فأن الكرد وجدوا أن المعاهدة لم تضمن لهم حقوقهم. ولذلك كان على حكومة نوري السعيد أن تسعى بأية وسيلة لانتخاب مرشحيها وحصولهم على الأغلبية في مجلس النواب ليتم تصديق المعاهدة دون عقبات.

تكونت معارضة المعاهدة في الانتخابات من حزب الشعب برئاسة ياسين الهاشمي وحزب الوسط برئاسة رشيد عالي الكيلاني والحزب الوطني برئاسة جعفر ابو التمن. أما عن حزب التقدم الحكومي فقد انقسم على نفسه بعد حل البرلمان وانتحار مؤسسه عبدالمحسن السعدون ،فترك خليفته ناجي السويدي الحزب وانضم الى المعارضة الرافضة لمعاهدة 1930 التي لا تضمن حسب رأيهم الاستقلال بعد دخول العراق عضوا في عصبة الامم .

في بداية الانتخابات، التي بدأت في 10تموز 1930 بذلت جهود من قبل الحزب الوطني لمقاطعة الانتخابات، ولكن حزبي الشعب والوسط بقيادة الهاشمي والكيلاني رفضا التعاون مع الحزب الوطني وقررا المشاركة في الانتخابات لأنهم كانون يؤمنون أن المقاطعة لن تكون سوى أضعاف للمعارضة. ومع ذلك فأن الدعم للحزب الوطني في موقفه قد جاء من مجموعة في بغداد أطلقوا على أنفسهم أسم (الشباب) مثل فائق السامرائي وحسين جميل وعبدالقادر البستاني وعزيز شريف. والذين أصبحوا فيما بعد قادة لحزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي والحزب الشيوعي العراقي بالتتابع. وقد قام هؤلاء بتوزيع منشورات يدوية في بغداد تحت عنوان ( من الشباب إلى الأمة الباسلة) حثوا فيها الناس على الاستجابة لنداء (القائد الوطني المحبوب جعفر ابو التمن، رئيس الحزب الوطني الذي دعا إلى مقاطعة الانتخابات)لانها سيتم تزويرها من اجل تمرير المعاهدة التي ستمنع استقلال العراق بعد دخوله عضوا في عصبة الامم.

وكان ابو التمن قد أوضح في ندائه يوم 17تموز ان المعاهدة الجديدة قد جعلت العراق قاعدة عسكرية للإمبراطورية البريطانية، وأعلن أن الانتخابات لن تكون حرة ، وأن البرلمان العراقي هو وسيلة بريطانية تم تأسيسه ليضفي الشرعية على المصالح البريطانية في البلاد لا غير ، ولذلك دعا ابو التمن الناخبين إلى مقاطعة الانتخابات وقال ” يجب أن نتبنى سياسة عملية لمقاومة الوضع الشاذ” . وقد ظهرت نداءات مشابهة في الكوفة والنجف والكوت موقعة بتواقيع أطلقت على نفسها (العرب الحقيقيون) أو(ابن الحكم الذاتي ) او (ابن القانون ) .وظهرت في الكوفة نشرة يومية سياسية سرية دعت الى (ثورة مدنية) لمقاطعة الانتخابات.

وفي بغداد دعا (الشباب) إلى اجتماع يعقد يوم 22أيلول من أجل توضيح الإجراءات التي يجب على الناس تبنيها في مقاطعة الانتخابات، إلا أن الحكومة لم تسمح بعقد الاجتماع واعتقلت الداعين له. وعندما نظمت حركة المقاطعة تظاهرة احتجاج على ذلك قمعتها الشرطة واعتقلت ثلاثة عشر من المتظاهرين. أحيلوا إلى المحكمة وحكم على عشرة منهم بالسجن بمدد متفاوتة من شهرين إلى ستة أشهر

تزوير الانتخابات

بدأ انتخاب النواب يوم 20تشرين الأول 1930 واستمر لمدة ثلاثة أيام. وقد أظهرت النتائج كما كان متوقعاً نجاحاً ساحقاُ لمرشحي الحكومة. ومع أن المعارضة قد حصلت على مقاعد في ألوية بغداد والموصل ولكوت والعمارة، ولكنها لم تحصل سوى 13مقعداً، وكان من بينهم ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وناجي السويدي وعلى جودت الأيوبي.

لقد أحكم رئيس الوزراء نوري السعيد سيطرته على الانتخابات بمساعدة المتصرفين والقائمقامين وموظفي الدولة. بعد أن سحب المتصرفين غير الموثوق بهم إلى بغداد. وقام المتصرفون في كل لواء بتسليم أسماء مرشحي الحكومة إلى أكثرية الناخبين الثانويين ممن كانت الحكومة متأكدة من ولائهم لها.

.بعد انتهاء الانتخابات شكل رئيس الوزراء نوري السعيد حزباً لحكومته، أطلق عليه اسم (حزب العهد) انضمت إليه الأغلبية الحكومية في مجلس النواب، والذي انحل وتلاشى بعد انتهاء مهمته في تصديق معاهدة 1930.

وفي اجتماع حزب العهد يوم 15تشرين الثاني 1935 أبلغ رئيس الوزراء السعيد أعضاء الحزب أن الحكومة ستطلب من البرلمان المصادقة على المعاهدة العراقية. البريطانية الجديدة في اليوم التالي من افتتاحه وعليهم أن يتخذوا الآن قراراً بالمصادقة. وقد صوت أعضاء الحزب بالاجتماع على مساندة الحكومة ووقوفه إلى جانب المصادقة على المعاهدة وملاحقها التي عقدت مع بريطانيا.

أما عن قادة المعارضة من حزب الشعب والوسط، فقد شكلوا من هذين الحزبين حزباً جديداً أطلقوا عليه اسم (حزب الإخاء الوطني) الذي قرر الوقوف بوجه المعاهدة لانها لن تضمن استقلال العراق بعد دخوله عضوا في عصبة الامم.

المعاهدة تتقاطع مع الاستقلال

أفتتح الملك فيصل الأول البرلمان الجديد في الأول من تشرين الثاني 1930 بخطاب العرش، وكانت المعاهدة العراقية- البريطانية المسألة الأولى التي أشار إليها الخطاب كشرط لدخول العراق عضواً في عصبة الأمم عام 1932. وطلب من أعضاء البرلمان المصادقة عليها لكي يدخل العراق في مرحلة جديدة هو بأمس الحاجة إليها. وعندما طرحت المعاهدة للنقاش انبرى الاعضاء المعارضين لها ، وكان المتحدث الأول بهجت زينل من لواء الكوت الذي انتقد المعاهدة لأنها تسمح للبريطانيين بالتدخل في شؤون العراق السياسية، وطالب المجلس برفضها. وقال: (إن المصادقة على هذه المعاهدة التي أعدت خصيصاً لمنفعة المصالح الاستعمارية البريطانية ستحطم جميع آمال العراق في الحرية)

أما ناجي السويدي ، فقد قال إن استقلال العراق (التام) لم تضمنه بنود المعاهدة. واختتم كلمته بالقول أن هذه المعاهدة هي بديل هزيل لجميع المعاهدات والاتفاقيات السابقة، وأنها تتناقض مع توصيات المجلس التأسيسي . واستعرض ياسين الهاشمي ، الوعود البريطانية التي لم يتم الوفاء بها من قبل بريطانيا، وكان يهدف من ذلك أن يشير إلى ان دخول العراق إلى عصبة الأمم غير مضمون. وانتقد الهاشمي الملحق المالي للمعاهدة وأعلن أنه “إذا كانت بريطانيا تريد من هذه المعاهدة شرطاً لدخولنا في عصبة الأمم، فأننا نفضل عدم الدخول” ولخص آراءه بالقول أن المعاهدة الجديدة ستبقي (الاستشارة) البريطانية وقواتها في العراق. وعليه اقترح الهاشمي أن يتخذ المجلس أحد القرارين التاليين: أما أن يرفض المجلس المعاهدة أو أن يؤجل اتخاذ قرار بشأن المعاهدة لحين إعلان شروط دخول العراق عصبة الأمم من أجل أن يختبر المجلس نوايا بريطانيا ووعودها التي لم يسبق وأن أوفت بها. وقد أيد رشيد عالي الكيلاني مقترح الهاشمي الثاني بالتأجيل، وتساءل قائلاً (لماذا يتوجب علينا عقد معاهدة مع بريطانيا قبل سنتين من دخولنا عصبة الأمم ؟) وكان رأيه أن المعاهدة الجديدة أقسى من الانتداب ومعاهدة 1922.وقد كرر بقية أعضاء المعارضة أراء الذين سبقوهم في الحديث من زملائهم، مثل صادق البصام من الكوت ومعروف الرصافي من العمارة وعلي جودت الأيوبي من بغداد وإبراهيم عطار باشي من الموصل.

دفاع ضعيف لاكثرية متنفذة

أجاب نوري السعيد بثقة على انتقادات المعارضة، واتهم المعارضة أنها لم تدرس مواد المعاهدة بشكل دقيق عندما قارنتها بالمعاهدة المصرية مع بريطانيا. وأوضح أن التشابه في الكلمتين العربيتين (التشاور) و(المشورة) قد جعلت من الصعوبة على المتحدثين التفريق بين الإثنين. وأكد السعيد للمجلس أن الكلمة الأولى (التشاور بين الجانبين) هي التي استخدمت في النص الإنجليزي للمعاهدة وليس (المشورة) والتي تعني تقديم النصيحة أي الانتداب،. ولكن السعيد أقر أن هناك امتيازات في المعاهدة الجديدة قد أعطيت للبريطانيين وقال:

(لو كنت رئيساً للوزراء في دولة مستقلة، فأني لن اقبل هذه المعاهدة )، ولم يكن هذا التبرير مقنعا.

لقد استمرت مناقشات المجلس حول المعاهدة أقل من ست ساعات، ثم جرى التصويت فصودق عليها باكثرية 69 صوتا ومعارضة 13 صوتا فقط . وفي 3 تشرين الأول 1932 أصبح العراق عضواً في عصبة الأمم. وفي 27 من الشهر نفسه استقالت حكومة نوري السعيد على أساس أن مهمتها قد انتهت بانتهاء الانتداب. وفي 5 تشرين الثاني صدرت الارادة الملكية بحل البرلمان للسبب نفسه . وبعد هذا كله يبقى السؤال قائما :هل يصح ان نعتبر دخول العراق عصبة الامم عيدا للاستقلال؟!

إرسال تعليق

0 تعليقات