علي الجنابي
(سطور من كتابي ؛ " صديقتي النملة")..
أزفَ الليلُ، أزِفَ فَطَمَسَ بجِلبابِهِ كلَّ كبرياء تَتَمَطّى، فأسكَتَ شِعرَ قصائِدها، وأسبَتَ نثرَ جرائدِها, ودعسَ بحِجابِهِ كلَّ خُيلاءَ تَتَخَطّى، فأكبَتَ بذرَ مكائدها، وأخبَتَ جذرَ حقائدها.
قد كنسَ الدُّجى تَصَعُّرَِ الخُدودِ بسَبتٍ قاهرٍ غَشّاها، فباتَ سَواءٌ فيها واليها ومولاها، مُتَعافيها ومُبتلاها، فلا فضلَ لنفسٍ على نفسٍ، إذ الوِسَادَةُ باسِطةٌ يدها بِطَغواها، وإذ الأرواحٌ مُنسَلِخَةٌ من أهوائِها ومَداها، ومن أجوائِها وصداها. جثثٌ هامدةٌ، وكلُّ جثّةٍ فاغرةٌ بسذاجةٍ فاها، لتكونَ مسرحاً لهوامِ الليلِ وسحاياها، المَرئيّ من عظاياها, والمِجهريّ من خفاياها، لتسرحَ الهَوامُ كما يشاءُ مزاجُها وتشاءُ نواياها.
كأنَّ الأفواهَ مسارحٌ لهَوامِ اللَّيل, وما المرءُ إلّا فاهٌ محمولٌ مُسخَّرٌ لبلاياها، ثم تراهُ يأتيها صاغِراً كدَكَّةٍ لرقصِها وعَزفِها ورَزاياها، رغم أنّهُ للتوِّ قضى نهارَهُ، يصولُ في تفسيرِ المَسائِلِ وتسخيرها، ويجولُ في تبرير الدلائِلِ وتزويرِها.
هاهوَ ذا أمسى غثاءً مُتَفقِّعٍاً من شَخيرٍ، وهَبَاءً مُتَقطِّعٍاً من زَفيرٍ, ويَستوي في ذلك الزّعيمُ في القصرِ والمعدمُ الفقيرُ، ويستوي الفَاجرُ في القعرِ والعالِمُ البَصيرُ.
كلُّ فاهٍ يَشخرُ، وفي كلِّ فيهٍ فيهِ هوامُ اللَّيلِ تَمخُرُ لتُبَتِّكَ في أبوابهِ مَليحَ إزرارِها, وتُفَكِّكَ بأنيابِها فسيحَ أكوارِها, وتُهَتِّكَ بين طيّاتِ لِسانيّهِ "صَريحَ أسرارِها" و"قبيحَ أوزارِها", مُطلِقَةً هَزَّها وأزَّها والصَّفير.
لكنَّ حِجابَ اللَّيلِ له حِجابٌ آخرُ. حجابٌ من رُضابٍ في فَرْشٍ عفيف، وقولٍ شريفٍ لطيفٍ، ومُغدِقَةٌ هي نَفَحاتُهُ في فضاءٍ كفيفٍ أليف، تُشِعِرُ العابدَ أنّهُ وحدهُ ولا خَلْقَ غيرَهُ عند معبودهِ المُضيف, فَتراهُ عَوّاماً بلا تَجديف، لَوّامَاً بلا تَخويف. حاضرة نبضاتُهُ إذ يُناجي معبودَهُ، فيُبادلُهُ معبودُهُ النّجوى وليفاً لوليف.
إنّكَ يا ليلُ صادق الوعدِ فلا تستأخرُ ميقاتَكَ طَرفَةَ عينٍ، فلا فتورَ ولا تسويف، ولاتستقدمُهُ طَمعاً في غايةٍ أو تحريف, ثمَّ وليأتيَ الفجرُ يطلبُكَ حثيثاً لايسابقُكَ في تكليف، وكلاكما في فَلَكٍ تسبحانَ بتقديرٍ وتَصريف.
وهاهو الفَجرُ قد غَمَزَ من حُضنِكَ متَرَسِّمَاً بتَلْهِيج، ومتَبَسَّمَاً بسَجيّةٍ شَجيّةٍ كرضيعٍ في حُضنِ أمّهِ يتَبَسَّمُ بتَدريج، ومتَنَسَّمَاً من عَبقِ حنانٍ ودودٍ وشيج. ومُتَجَسِّماً بعطرٍ تَغارُ منهُ بقيّةُ ساعاتِ اليومِ ودقائقُهُ لما فيهِ من مزيجٍ بهيج. عطرٌ غَمَزَ ليَلمِزَ أنَّهُ ولادةٌ لأمَلٍ حاملٍ لأريج، وغَمَزَ ليَرمزَ أنَّهُ إعادةٌ لعَمَلٍ كافِلٍ وحُبُكٍ من نسيج.
رُبَما الفجرُ الرضيعُ متَوَسَّمٌ لإستقبالٍ له من الأنامِ حافلٍ وبهيجٍ, مابينَ عجيجٍ وحجيج. لكنَّ غَمَزَاتَهُ باتَا إثنانِ من قومِنا بها مُتَوَلِّعَان، وإثنانِ منها مُتَقَلَّعَان من القَومِ:
فأمّا المُتَوَلِّعانِ؛ فرفيقُهُ الدّيكُ المُتَرَنمُّ بتغريدةِ الفجرِ وقاهرٌ للنّوْم، اليومَ وكلَّ يَوْم. ثمّ شيخٌ مُتَوَلِّعٌ ويتهادى بالبدرِ الى مسجدهِ لصلوةٍ، ورُبَما نافلة صَوْم.
وأمّا المُتَقَلِّعانِ؛ فخَمَّارٌ مُتَقَلِّعٌ مُتَسَكِّعٌ خَرَجَ لِتَوِّهِ من خمّارةٍ، يَتَنادى بِسُوءِ لفظٍ، وبخربشاتِ من لَوْم.
وأمّا رابعهُمُ..
فذلكَ صَبيٌّ يتيمٌ يَتَفادى كلَّ فُجاءةٍ وحَوْم, ومُتَوشِحاً رأسُهُ كيسَ وبرٍ فارغٍ كأنَّهُ له قاربُ عَوْم, ومُبَكِّراً إلى سوقِ الخضرِ وذلك دأبُهُ كلّ يوم. ولئن...
alialjnabe62@gmail.com
0 تعليقات