علي الجنابي
فنجانُ قهوةِ العصرِ بَلسَمٌ لإبنِ أدم، يَردُمُ ما في فكرهِ من رَهوةٍ، ويَهدمُ مافي ذكرهِ من سِهوة. وتَراهُ في أذنهِ يهتفُ :
"إرتشفْ لتتَداوى من غفلةٍ، ولتَستشفَّ من نَسوة".
وهو سَقَمٌ لبنتِ حواء وماحولِها من نُسوة، وتَحسبُ أنه يُصَيّرُ وجهَها جلدَ عَجْوَةٍ، ولربما عُجْوَة. وتراه في جبهتها يهتفُ:
" لا إرتشافَ ولا تهاوٍ في ذي دَعوة، ولا إعترافَ أنّهُ للنُسوة أَسوة".
وإذ كنتُ وسعيفاتُ نخلتي، والسحابُ، وعصبةٌ من عصافير في حديقة الدار في ندوة، وإذ بلغَ بنا التأمُّلُ في الندوة في جدِّهِ مبلغَ الذروة، إذ بصغيرتي قد أتت تلمِضُ بضفيرةٍ مجدولةٍ على كتفِها حُلوة، وتقبِضُ بِعَشْرِها فنجاناً ساخناً كيلا تترقرقَ القهوة.
كانت خُطاها هوناً، بتُؤَدَةٍ وهويناً، وكأنّ هذي الخطوة تستنصرُ تهي الخطوة. الخطواتُ مُرتَجفاتٌ، الخطوةٌ إثرَ خطوة.
أنا نَقَضتُ ما إِسْتَأْثَرتُ بهِ من خَلوة، وفَضَضْتُ ما إِسْتَحضَرتُ فيهِ مِن نَدوة، وأَفَضْتُ الى أصابعَ أميرتي إذ تَتَلَّمسُ شفا العُدْوَةُ، والعُدْوَةُ هي سلسلةٌ من بَلاط أحَاطَ بعُشبِ حديقتي وإرضِها الرخوة.
دَنَتْ حُلوتي، ثمَّ دَلَّتْ بقدمِها الى العُشب، فَظَلَّتْ نظراتُها للصّحنِ خاضعةً لئلّا ترقصَ القهوة. فَزَلَّتْ أصابعُ ساقِها وضَلَّتْ عن شفا العُدْوَةُ، كانَ حالُها كحالِ كفيفِ بصرٍ يتوجسُ الهفوة.
ماإنفَكّت أميرتي تَتلمَّسُ حافةَ الهُوّة.
مُعاناةٌ ماحقةٌ كيلا تنسكبَ القهوة،
ومُقَاسَاةٌ ساحقةٌ لئلا تنقلبَ في الهُوّة.
كأنّي بها حُمِّلَتْ فنجانُها جوراً وعُنوة، ولسانُ حالِها يتّشَكّى:
"بئسَ البناتُ وبئسَ الشيخُ شيخهمُ*تَبّاً لِذلِكَ مِنْ شيخٍ ومِنْ عَقِبِ، أفكلُّ هذا لأجلِ رشفةٍ من عَلْقَمَ القهوة! سُحقاً لها من حَنظَلِ النزوة، فما لأجلِ هذا كُتِبَ ميثاقُ العِشرةِ مع عالمِ النُسوة!
بيدَ أني ناظرٌ ومُتلذِّذُ بما حاقَ بها من مِحنةٍ ومن شَقوة..
وأخيراً هَبَطَت أميرتي..
ويا لشدَّتِهِ من هبوطٍ على مدرجِ العشبِ، ويالها من شَقوة!
هبوطٌ في أجواءٍ ملَبَّدةٍ مابين لَهِيب قهوة ورهيب هفوة.
بيد أنَّ بهجةَ الأمر، أنَّ أميرتي جَنَحَتْ للصّبرِ، فنجحَتِ في الأمر، بلا شكوىً ولا كَبوة.
نَجَحَ سندباديَ الصغير فأرسى بمَركبهِ بلا صفيرٍ ولا صَهوة، ورَمَى بغنائمهِ أماميَ على طاولةٍ لي كأنها أنفُ رَبوة, ثمّ قَطَبَ حاجبيهِ بفخرٍ، وخَديِهِ بتصعيرٍ وحَظوة, ناظراً جزاءً غَدَقاً من جَيبي بلا مِنَّةٍ ولا رَشوة.
إِحْتَسَيتُ رشفةً، وقَبَّلْتُ خَدَّهُ، ولهيبُ الودِّ في كَبدي أشعَلَ النَخوة، فمَدَدْتُ يدي في جِيبي لأُخرِجَ الثّروة.
مَسَحَ قُبلتي بتَنَمّرٍ عن خدّيهِ بيديهِ ، ونظراتُهُ تنطقُ :
"إحسمْ الأمرَ يا رجل، يا إمامَ السهوةِ والركودِ والغفوة، ولا شفاءَ لك ولو جرعتَ ما في"سريلانكا"من شاي، ومافي"البرازيل"من قهوة !".
لم أشأ مُماطلةَ سندبادي، فيَذهَبُ من عينيهِ بريقُ الفخرِ بالنصرِ والنَّشوة. وذاكَ نصرٌ ماتحقَّقَ إلّا بعد سباتِ يديهِ في حرِّ قهوة، وثباتِ قدميهِ في صَرِّ هُوَّة.
وحثيثاً ناولتُهُ ديناراً، فإعوَّجَ لإجلهِ طَرَباً شَطرُ شفّةٍ في فيِهِ، وكادَ فاهُهُ يلفِظُ الرّغوة.
(كانت تلكَ صفحةً من مسودة كتابي "حوار مع : صديقتي النملة").
0 تعليقات