تعرضات طائفية تسبق الانتخابات النيابية العراقية

مشاهدات



د. باهرة الشيخلي


الممارسات الطائفية التي تنتهجها الميليشيات وبرزت بشكل أوضح في الآونة الأخيرة، تعبر بصفة سافرة عن مقاومتها للوعي الوطني العابر للطائفية الذي أشاعته الانتفاضة الشبابية العراقية في أكتوبر 2019.

صورة أثارت حفيظة العراقيين

فجّر نصب لوحة كبيرة تحمل صورا لقادة سياسيين إيرانيين، الخميني وخامنئي وقاسم سليماني وأبومهدي المهندس أمام مرقد الإمام أبوحنيفة النعمان في منطقة الأعظمية ببغداد، غضبا عراقيا عمّ الجنوب العراقي الشيعي لدلالاته الطائفية الواضحة.

واستطاع أهالي الأعظمية تمزيق هذه اللوحة بعد تعليقها بمدة أربع ساعات و34 دقيقة، محطمين الرقم القياسي الذي سجلته محافظة البصرة سابقا، بتمزيقها صور الخميني وخامنئي وسليماني والمهندس بعد تعليقها في المحافظة بسبع ساعات و11 دقيقة، وهو ما سيفتح باب المنافسة بين المحافظات العراقية لتحطيم الرقم القياسي الأعظمي.

أشاعت أحزاب السلطة وأطراف حكومية أن من علق اللوحة جهات مجهولة لإبعاد النظر عن الأسلوب العدواني المتعمّد للميليشيات الولائية التي اتجهت إليها أصابع الاتهام. وإذا كان من علّق هذه اللوحة جهات مجهولة حقا، فهذا دليل يدين الحكومة ويؤشر على ضعف أجهزتها الأمنية وتقصيرها.

على أي حال، فقد كان أهالي الأعظمية من الوعي بالأهداف الطائفية لهذا العمل المشين بحيث أنهم هتفوا عند إزالتهم اللوحة المنصوبة في مدينتهم “بالروح بالدم نفديك يا عراق” و”إخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه”.

والحقيقة إن للميليشيات الولائية نهجا راسخا في المحافظات السنية حيث رفعت مثل هذه اللوحات فيها، بل وأقامت احتفالات وطقوسا طائفية وأجبرت الأهالي على المشاركة فيها. كما أن الملاحظ أن مثل هذه الفتنة تقوم بها الميليشيات الطائفية في المدن والمناطق السنية قبل كل انتخابات نيابية في البلاد.

يشير الواقع إلى أن المستوطنين صمموا، سلفا، مشروع تخريب العراق، عبر الطائفية فكرا وسلوكا وعدّوا المواطنة العدوّ الأول الذي يتعين الإجهاز عليه.

وكان مجلس الحكم الانتقالي قد وضع الخطوة العملية للنظام الطائفي وإقصاء روح المواطنة، ووطّد إبراهيم الجعفري الأساس الطائفي للدولة الجديدة واقترن بها الذبح على طريقة 7 في مقابل 7، ليصبح نوري المالكي لاحقا منظّر الطائفية والمروّج لأضاليلها فأقدم على تجزئة المجتمع العراقي وجعل منه خندقين متناحرين تحت شعار “معسكر الحسين ومعسكر يزيد”، فكان حزب الدعوة حريصا على استمرار الحملات الدموية وسقطت في عهد “المختار المالكي” آلاف مؤلفة في محرقة الطائفية من الضحايا، سنة وشيعة، وما أقدم عليه الجعفري والمالكي هو الطريق نفسه الذي سلكه عادل عبدالمهدي.

يلفت نائب رئيس الجمهورية الأسبق طارق الهاشمي في رسالة إلى أن العملية السياسية العقيمة كما هو متوقع لا تفرز أمرا مبشرا ولا مفيدا لهذا يتوسل السلطويون الفاشلون من أجل تدوير مواقعهم في الانتخابات المقبلة، بإحداث صدمات غرضها إثارة الغرائز وإحياء الفتن وإيقاظها ودفع الناس إلى التعصب المذموم أملا في كسب أصوات الناخبين، خاصة وأن الانتخابات باتت على مرمى حجر، ولا ندري كيف نفسر إثارة أهالي الأعظمية برفع صور مستفزة؟ بل كيف نفسر المساعي المحمومة والخبيثة للاستيلاء على الجامع الكبير والمدرسة الدينية في سامراء؟ بل وبماذا نفسر وبعد 18 سنة من الحكم الجديد تغيير عنوان لجنة نيابية من “لجنة المصالحة الوطنية” إلى “لجنة اجتثاث البعث” كأن عقارب الساعة تعود إلى الوراء.. أمّا الحادث الأخطر فهو أن ينشط الإرهاب ويضرب هنا وهناك بجرأة وبصفة مباغتة.

ما أشار إليه الهاشمي من أحداث شاذة لا تفسير لها ولا رابط لها سوى الانتخابات، فالقصة مُعادة وحصلت وتحصل في كل انتخابات والحذر واجب، وذلك على وجه الدقة ما يساور الشارع العراقي الذي يعتقد أن وراء ذلك كله الميليشيات الولائية، في محاولة لتجديد صلاحيتها المنتهية، ولكي تقول إن وجودها ضروري مادام الإرهاب موجودا مع أنها هي نفسها صانعة هذا الإرهاب ومدبرته.

نشر معهد “نيولاينز للدراسات الاستراتيجية” ومقره واشنطن دراسة خطيرة تستند إلى تقارير استخبارية ومقابلات وبحوث ميدانية عن سيطرة الميليشيات على العراق، وقعت في 49 صفحة، واستعرضت تفاصيل مكثفة لم تنشر سابقا حول إنشاء الميليشيات المرتبطة بإيران نظاما جديدا للسيطرة على منطقة استراتيجية تربط العراق وسوريا.

ووفقا للتقرير فإن الميليشيات تستغل الفراغ الناجم عن انهيار داعش للبدء في بناء الهياكل الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للسيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية في العراق.

وجاء في التقرير أن “تسلل الميليشيات إلى قوات الشرطة والأمن سمح بالسيطرة على تحركات المواطنين العراقيين والتجارة وغير ذلك من جوانب الحياة الخاصة، وتهدد الميليشيات الصحافيين، وتقطع الطرق المؤدية إلى مناطق تجارية مهمة لعرقلة الأعمال، بل وتنقل مواطني بعض القرى إلى مواقع مجهولة”.

يلفت التقرير إلى أن الميليشيات تلجأ إلى التهديد لتعيين الأكاديميين المفضلين لديها مسؤولين عن بعض الكليات الأكثر أهمية في المحافظات التي تعيث فيها تخريبا وفسادا.

بعد تحرير الموصل وبقية أرجاء محافظة نينوى من داعش، بدأت الميليشيات بالتلاعب بملكية الأراضي والعمل على إجراء تغيير ديموغرافي.

وتوزعت الأراضي الزراعية في منطقة سهل نينوى على الميليشيات. وكانت هذه القرى الواقعة على مشارف الموصل ذات أغلبية مسيحية استولى عليها تنظيم داعش سنة 2014، وبعد أن استعادت قوات الأمن تلك القرى احتلت الميليشيات أراضي برطلة والحمدانية ومناطق أخرى، ومنعت العديد من المسيحيين من العودة، وتم تغيير سجلات النفوس وسُجل عناصر الميليشيات من وسط العراق وجنوبه على أنهم من سكان سهل نينوى والموصل من أجل إضفاء الشرعية على مصادرة ممتلكات السكان الأصليين.

ويشير التقرير إلى سيطرة الميليشيات على أكثر من 72 حقلا نفطيا في منطقة القيارة جنوب الموصل كان داعش سيطر عليها سابقا، وتسرق الفصائل نحو 100 شاحنة صهريج نفط خام يوميا.

وتجني الميليشيات مئات الآلاف من الدولارات كل يوم من خلال الابتزاز عند نقاط التفتيش غير القانونية التي أقامتها في جميع أنحاء البلاد، كما تفرض رسوم حماية غير رسمية تتراوح بين ألف و3 آلاف دولار شهريا على المطاعم الكبيرة، أما أصحاب المحال الذين يعجزون عن الدفع فإن التفجير مصير مصالحهم وينسب الانفجار زورا إلى داعش.

من هذا كله نستنتج أن دولة الميليشيات الولائية هي التي تتحكم بمصير العراق وما الرئاسات الثلاث إلا ديكورات تخفي وراءها الخراب الذي حل بالعراق. ورغم أن اغتيال القيادي البارز في قوات الحشد الشعبي أبومهدي المهندس، والقائد الإيراني قاسم سليماني الذي يوصف بمهندس شبكة الوكلاء الشيعية العراقية، وجه ضربة كبيرة إلى هذه الميليشيات، إلا أنه في الوقت نفسه دفعها نحو المزيد من التوحش والعدوانية، وبالمحصلة فإنها تظل عميقة الجذور في البلاد.

إن الممارسات الطائفية التي تنتهجها الميليشيات الولائية والتي برزت بنحو أوضح في الآونة الأخيرة، تعبّر بصفة سافرة عن مقاومتها للوعي الوطني العابر للطائفية الذي أشاعته الانتفاضة الشبابية العراقية العنيدة في أكتوبر 2019، وهذا كله مما لا تتمكن العملية السياسية الحالية من علاج جزء منه، وهو ما يوجب على العراقيين إجراء مراجعة جوهرية للقواعد الفاشلة التي تحكم النظام السياسي الحالي في البلاد، إذ يجب أن يتحوّل التركيز إلى المواطنين بعيدا عن الطوائف. فالتغيير الحقيقي يتطلّب إجراء تعديلات كبيرة على الدستور والنظام الانتخابي العراقي بالإضافة إلى سنّ قوانين جديدة بشأن الأحزاب السياسية وإدارة الموارد، كما يتعيّن أن تصبح السلطة أقلّ نخبويّة وأكثر بعدا عن المركزية وأكثر تعبيرا عن احتياجات الناس، وهذا لن يتحقق إلا بعملية سياسية يصوغها العراقيون بأنفسهم ودستور يكتبونه بأيديهم.

على الرغم من أن الدستور لم ينصّ صراحة على توزيع السلطة وفقا للمكونات الطائفية، فقد ثبّتت الممارسات التي سادت في العراق الهويّة الطائفية بصفتها فئة سياسية، وركّزت تلك المقاربة على إيجاد ممثّلين طائفيين أكثر من تركيزها على التغلّب على الانقسامات الطائفية، وعزّزت النظم الانتخابية التي تستند إلى التمثيل النسبي والقوائم الحزبية، الطائفية السياسية.

وختاما، لا حياة لأحزاب ولاية الفقيه من غير الطائفية فهي المادة الحية التي يعيش عليها مستوطنو الخضراء وهي الزاد والمعاد لسلطانهم تعبيرا عن أعماقهم وامتثالهم للدولة الإيرانية، ولسوف تبقى الطائفية هي معيار هذه الأحزاب وطريقها وليست الانتخابات إلا صفحة من صفحاتها.. والسلام على العراق.

كاتبة عراقية

إرسال تعليق

0 تعليقات