العراق.. حريق مستشفى ابن الخطيب لن يكون الأخير

مشاهدات



د. باهرة الشيخلي


الدولة التي أصبح الفساد السياسي عنواناً لها ومنهجاً لأعمالها قاربت حافة الهاوية وتخلى حكامها عن القانون وأشاعوا الفساد في سلطاتها الثلاث وجعلت من ميليشيا الحشد الشعبي مركزاً للقرار السياسي.

خارطة فساد لا حدود ولا نهاية له

مع الحريق الذي شهده مستشفى ابن الخطيب في بغداد المخصص للمصابين بفايروس كوفيد – 19، السبت الـ24 من أبريل الماضي، والذي راح ضحيته قرابة المئة شخص والعشرات من المصابين، تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقولة لعالم الاجتماع العراقي الراحل الدكتور علي الوردي نصها “في وطني يوجد مستشفى سيء لعلاجك وعشرات المساجد الفاخرة للصلاة عليك عند موتك”.

كأن عالم الاجتماع، في مقولته هذه التي أطلقها قبل ستين عاماً، كان يصف الحال التي عليها مستشفيات العراق، هذه الأيام، فقد وصل بها السوء حداً لم تشهده، منذ افتتاح مستشفى المجيدية، التي هي أول مستشفى في بغداد أنشأها العثمانيون سنة 1851، كما بلغت المساجد من البذخ حداً لم تبلغه، منذ أن بنى المسلمون المسجد النبوي في المدينة المنورة، حتى أن أحد مساجد بغداد أقام منبراً مصنوعاً من الذهب.

أعقب هذا الحريق حريقان الأول في شارع الأطباء بمحافظة صلاح الدين والآخر في مستشفى الكاظمية العام، شمالي بغداد، في ردهة المصابين بفايروس كوفيد – 19 أيضاً، ويتوقع العراقيون أن سلسلة حرائق أخرى ستضرب المستشفيات في البلاد ما دام الفساد مستشرياً في مفاصل الدولة جميعها، وهذا ما يؤكده خبير السلامة ومعدات الحريق في بغداد، علي غازي، بقوله إن “المستشفيات العراقية كلها معرضة لخطر مشابه لخطر مستشفى ابن الخطيب إن لم يكن أكبر”.

حريق مستشفى ابن الخطيب استدعى إلى الذاكرة العراقية سلسلة الحرائق التي ضربت الحقول الزراعية ومشاريع الدواجن والأسواق والمراكز التجارية بالعراق في سبتمبر 2019

يقول غازي، الذي عمل بتأسيس خطوط الإنذار ضد الحريق في أحد مستشفيات محافظة بابل لموقع “الحرة” إن “العقود تمنح بصفة مثيرة للشبهات أحيانا”، مضيفاً “الفساد موجود في تفاصيل العقود الحكومية كلها وعقود أجهزة الإنذار والإطفاء ليست استثناء”، راوياً أنه في إحدى المحافظات، طلب من الشركات المجهزة عمولة تصل إلى 33 في المئة من قيمة العقد، ما أدى إلى انسحاب الشركات الرصينة حتى لا تتعرض إلى الخسارة، مما أفسح المجال أمام الشركات الرديئة للدخول على الخط.

استدعى حريق مستشفى ابن الخطيب إلى الذاكرة العراقية سلسلة الحرائق التي ضربت الحقول الزراعية ومشاريع الدواجن والأسواق والمراكز التجارية بالعراق في سبتمبر 2019، وفي الـ4 من ديسمبر الماضي أصدرت مديرية الدفاع المدني إحصائيات حوادث الحريق التي أخمدتها فرقها في عموم المحافظات العراقية عدا إقليم كردستان، خلال العام الماضي 2020 بينت فيها نشوب 5702 حادث حريق في القطاع الحكومي، فيما بلغ عدد حوادث الحريق في القطاع المختلط 679 حادث حريق، أما عدد حرائق القطاع الخاص فقد بلغ 23277 حادث حريق.

والواقع أن الدولة التي أصبح الفساد السياسي عنواناً لها ومنهجاً لأعمالها قاربت حافة الهاوية وتخلى حكامها عن القانون وأشاعوا الفساد في سلطاتها الثلاث وجعلت من ميليشيا الحشد الشعبي مركزاً للقرار السياسي وسلطة قائمة بذاتها تنقاد لها وتخضع لسلطانها القوات المسلحة ومن بينها وزارتا الدفاع والداخلية ويصول الميليشياويون الحشديون نهباً وتجريداً لما بقي من ثروات العراق بما فيها النفط والمعادن، ما يجري في ظلها الآن طبيعي جداً وغير الطبيعي أن يجري العكس.. وفي ظلها يعيش العراق الآن مرحلة ما بعد الخراب.

بسط الحشد فساده الإرهابي في مرافق الدولة كلها وزادت وتائره في الشهرين الأخيرين، ضمن الحملة التعبوية غير المسبوقة في تاريخ البلاد استعداداً للانتخابات النيابية.

يخطئ من يعتقد أو حتى يظن أن دولة الحشد معنية بأمر الوطن والمواطن.. فلا صلة لها لا بأرض بلاد الرافدين ولا بإنسانها فهي معنية فقط بحفظ مصالح طهران والدفاع عنها والقتال من أجل الولاية الإيرانية حتى آخر عراقي، وزعماؤها كلهم مزدوجو الجنسية أو ليست لهم جنسية عراقية، وحتى من له جنسية عراقية اشترى جنسية بلد آخر.. خذها من الرئاسات الثلاث إلى الوزراء إلى قادة الميليشيات وحتى المديرين العامين.

يعلق سكرتير جمعية الصداقة العراقية الأميركية الدكتور ريمون جورج على فاجعة مستشفى ابن الخطيب بالقول “عندما لا توجد إدارة ناجحة بسبب عدم كفاءة من يدير المستشفى فكيف نتوقع أن تتوفر تدابير حماية لمنع الكوارث.. إن الحقيقة المرة، الآن، هل ستجري محاسبة للمقصرين، أم أن الحكومة ستكون تحت رحمة الميليشيات والأحزاب الولائية التي تحكم البلاد”.

يضيف جورج أن “الشعب العراقي يطالب بإقالة مدير مستشفى ابن الخطيب ووزير الصحة بسبب الحادثة المفجعة والتي راح ضحيتها العشرات من المرضى وفي الوقت نفسه محاسبة المقصرين وإلا فإن حكومة بغداد لا حاجة لوجودها”.

لكن إقالة مسؤولي الصحة كلهم في البلاد ليست حلاً، فالوضع كله في البلاد به حاجة إلى حل جذري، وهذا الحل لن يأتي إلا بإزالة العملية السياسية التي أسست للخراب والبلاء والفساد والتدمير في عرض البلاد وطولها، وإلا فما قيمة أن تجد علاجاً لمؤسسة وسط مؤسسات أكلها الفساد والخراب ونخرها نخراً؟

كتب لي الدبلوماسي السابق الدكتور غازي فيصل السكوتي “شخصيا ليس عندي أسرار عن الحرائق التي تضرب البلاد بين وقت وآخر، لكن المؤكد أنها تكشف الفساد السياسي والأخلاقي للنظام واستمرار الفوضى ودور الميليشيات في أفغنة العراق والتغطية على جرائم المافيات في الوزارات خصوصا الصحة وتعكس الصراع بين مافيات الوزرات والأحزاب نحو الانتخابات المقبلة”.

الحشد بسط فساده الإرهابي في مرافق الدولة كلها وزادت وتائره في الشهرين الأخيرين، ضمن الحملة التعبوية غير المسبوقة في تاريخ البلاد استعداداً للانتخابات النيابية

تبدى تجذر الفساد في عقود بناء المستشفيات الوهمية أو غير المكتملة أو غير المستوفية لشروط السلامة، وعقود شراء المعدات والأجهزة والدواء والإمدادات الطبية وانعدام صيانة المستشفيات وتأهيلها، إذ تم تشييد أكثر من نصف المستشفيات الموجودة في البلد في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. ويبلغ عدد الموجود حاليا 229 مستشفى، بما في ذلك 61 مستشفى تعليمياً و92 مستشفى خاصاً و2504 مستوصف، معظمها بلا طبيب. ومنذ سنة 2012، وعلى الرغم من وصول ميزانية العراق رقما لم يسبق الوصول إليه سابقاً، ويعادل ميزانية دول مجتمعة عدة، إلا أن عدد الأسرّة وفقًا للبنك الدولي، لم يزد على 1.3 سرير في المستشفيات لكل 1000 عراقي، انخفاضًا من 1.9 في العام 1980، و0.8 طبيب، وهو انخفاض كبير من 1.0 في سنة 2014. وهذا أقل بكثير من مصر والأردن، وخصص 154 دولارًا فقط للفرد للخدمات الصحية سنة 2015، مقارنةً بإيران 366 دولارًا والأردن 257 دولاراً. تشير هذه الأرقام الموثقة إلى استمرار التدهور الصحي بينما تواصل الحكومة الإعلان عن مشاريع وتحسينات وإصلاحات بمبالغ خيالية، فتتلاشى المبالغ ولا يبقى للمواطنين غير السراب.

ويشكل تناقص عدد الأطباء مشكلة حقيقية، فقبل الغزو كان هناك نحو 32 ألف طبيب في المستشفيات العامة والهيئات التعليمية. إلا أن الكثيرين غادروا البلد بعد تعرضهم للتهديد والاعتداء والاختطاف بالإضافة إلى من تعرض للاغتيال، وازداد الأمر سوءًا مع تعرض الأطباء للاعتداء على يد عناصر أمنية وأعضاء ميليشيات تعتبرهم مسؤولين عن وفاة أحد المرضى.

ومع تدهور المستوى التعليمي، والتعيين حسب الانتماء الحزبي – الطائفي، وانعدام النزاهة، لا غرابة أن تحصل وزارة الصحة على لقب “أكثر الوزارات فسادا”، كما ترى الناشطة السياسية العراقية هيفاء زنكنة، حيث فاقت قيمة الفساد في وزارة الصحة 10 مليار دولار منذ 2003. ولعل أكثر صفقات الفساد إثارة للضحك المبكي هي صفقة “النعال الطبية” بإشراف وزيرة الصحة السابقة عديلة حمود، حيث تم شراء 26 ألف نعل طبي بمبلغ 900 مليون دولار، في الوقت الذي تفتقد فيه المستشفيات لأبسط أجهزة الفحص والأدوية الأساسية.

ختاماً، يتغافل الفاسدون الداعون إلى الإصلاح في العراق لذر الرماد في العيون، أن الإصلاح الحقيقي ينبغي أن تتوفر له إرادة سياسية ودعم شعبي، وهو ما ليس متحققاً ضمن خارطة فساد لا حدود ولا نهاية له يريد أن يجد الحل لأزمات كبرى في إعلان حكومي مبتذل عن تشكيل لجنة تحقيق لمعرفة أسباب الحريق، أو في توجيه رئيس الوزراء بـ”نقل جرحى حادثة حريق ابن الخطيب ممن يحتاجون للعلاج إلى خارج العراق” مستخدما، باستهانة لا تغتفر، وصف جريمة قتل 91 مريضاً، لجأوا إلى المستشفى للعلاج، بأنها “حادث”، ولم يتطرق أحد أبداً إلى أن كل ما جرى ويجري في العراق تتحمل المسؤولية الأخلاقية عنه الولايات المتحدة التي غزت البلاد وأشاعت فيها الفوضى بعملية سياسية ملغومة فرضتها.

* ملاحظة: منذ التاسع من نيسان سنة الاحتلال 2003 إلى اللحظة القائمة شكلت المئات من لجان التحقيق في الفواجع التي أصابت العراقيين لكن الفاعل كان مجهولاً دائماً.

كاتبة عراقية


إرسال تعليق

0 تعليقات