كمال عبد الرحمن / ناقد من العراق
هل طغيان (الأنا) و(الذات) في النص وما لهما من سلطة أنوية،بمقدورهما أن يغرقا القصيدة في الغنائية؟،التي ربما اتهمها بعضهم بالخطابية والمباشرة والتقريرية،لتحل محل أجواء درامية ذات شحنات ديناميكية لها القدرة على تفجير اللغة في القصيدة، بدلا من انتشالها واخراجها من قمقم الذات وقوقعات (الأنا)،ان ((الشعر العربي الحديث قد أدرك قصور الشعر الغنائي عن استيعاب تجربته الانسانية الادبية التي بدأت تميل على الشمولية والكونية))( 1) وتمثل الأنا الشاعرة ــــ بوصفها فاعلا شعريا نائبا عن الشاعر في ميدان العملية الشعرية ـــ المركز البؤري الساس والجوهري،الذي يجب فحصه ومعاينته وتأويله حين يتعلق الأمر بأي اجراء قرائي يغامر باقتحام القصيدة(2) ، انها الأسئلة، شعرية الأسئلة، عندما يقتحم الشاعر عبد الجبار الجبوري براءة النص باتجاه يوتوبيا الجسد مباشرة:
((جائحتي أنتِ والنساءُ هلَاك كنتُ أمشيْ،
ويمشيْ على الماءِ قَلبي،
وظّلي يَسبقُني،
وكنتِ جائحَتي،
والنساءُ هلَاكٌ،
أعرفُ سوفَ أبْقى،
وسوف أشْقى ،
وسوفَ أمشيْ على الماءِ وحْدي،
يأخذُني البحرُ من يَدي الى البَحر،يُجرجرُني من قصيدَتي،
فينبلجُ من بين نِهدّيكِ ذلك الصباحُ الذي كُنْتِهِ
وتبرز (الأنا) في جدلية الحوار الساخن(اعرف/ ابقى/ اشقى/ كنته) وتبرز (الأنا) المضخمة في مواضع كثيرة من القصيدة وبشكل لافت للنظر،بحيث يمكن تغييب الاصوات الاخرى في القصيدة تحت(سلطة الأنا الشاعرة)، مع قدرة ( الأنا) على الدخول في عالم ( الآخر:أنت) الى حد التماهي:
((وتبكي بين يديكِ الغيومُ،
وتلمعُ بين مقلتيكِ الشموسُ،
وكنتِ جائحَتي،
كنتُ أنا والبحرُ نجلسُ على ضفة البحَّر،
كنتُ أُلوِّحُ لكِ بقصيدَتي،
وتُلوِّحينَ لي بشالكِ الأحمر،
شالُكِ الذي مَزَّقْتُهُ الريح،
ألليلُ يطولُ،لأنَّ الليلَ لمْ يتمَّ نوَرَه لي،
وفرحَ الآخرون،
هكذا جمعْتنا الجوائحُ والنوائح))
ولااجد مبررا في الخوض في المزيد من(أنات)أو(أنوات) الشاعر عبد الجبار الجبوري ـــــــ كما يحلو للناقد أ.د. محمد صابر عبيد ان يسميها ـــــــــ ،فلاشك ان هذا العدد الكبير من متعلقات (أنا : عبد الجبار)وهي بالتمام والكمال(20) مرة ذكرت فيها متعلقات الأنا من فعل واسم ومصدر واضافة وغيرها) وهذا رقم كبير نسبة لشاعر مبدع يعرف تأثير ( الأنا) وخطورتها على النص الشعري اذا لم يتم استعمالها استعمالا ابداعيا خاصا(3) لكن الشاعر ابدع فعلا في استخدامها استخداما فنيا راقيا.
ويمكن تعريف«الأنا» حسب المعجم العربي بأنه ضمير متكلم قائم بذاته ولذاته، ولا ينازعه، أو يشاركه في ذاتيته وبصفته آخر، فهو مستقل عن غيره، وان كان منتجاً له وناتجاً عن علاقته به، والأنا في هذه الحالة، متقلص في مساحته، مسكون بنزعته الفردية، وقابع في مكانه وزمانه، ولكنه متوسّع في علاقته بالضمائر الأخرى و بها، حركة وسكوناً.
ففي شعرية الخطاب يبدو الأنا كامنا في سياقات علائقيّة بالآخر(الضمير)، مثل ما يظهر الآخر(الضمير) في علاقات سياقيّة مع الأنا في الخطاب ذاته. والأنا، هنا، يقوم بدور محوري متحفز، بكونه ذاتاً مركزية، يتحدد بعده الجغرافي، في أضيق حالاته، ان شخصية الشاعر مندمجة اندماجا كليا بشخصية ( الآخر: المرأة):
كنتُ أحلمُ أنْ أموتَ بين يديّها،))
وأتشبثُ بذيلِ عباءتِها، حين تلتقي النجوم،
فيهربُ مِنِّي الموتُ، لأنها تميمةُ الروحْ
،وتعويذةُ الزمانْ،تلقفتكِ الرياحُ،أخذتكِ الى بلادٍ،
ليستْ لها سماءٌ ولا قمرْ، ليستْ لها أنجمٌ ولاغيومٌ ولا شجرْ،
بلادٌ وسْعُ المَدى،كأنّها الرَّدى،أنتِ))
فالأنا هي مركز الهوية الواعية، في حين أن الذات هي الشخصية الكلية بجوانبها الشعورية واللاشعورية كافة، وتحتوي على «الأنا» التي هي دائرة صغرى في الدائرة الكبرى (الذات)؛ فالذات كلٌّ ومركزٌّ في آن، تتحدَّد في ضوء توقها الدائم إلى الآخر وفق ليفيناس.
وقد نقرأ الذات من وجهة نظر سيميائية، إذ إن «كل ذات تجد نفسها في موضع تساؤل، لأنها تفتح ثغرة داخل الدال أينما تموضع» والذاتَ السيميائية هي : «عندما توضع الذات السيميائية في الخطاب، تتّبع مسارا يمكن تشبيهه بمسار الذات المتكلمة في التحليل النفسي».إن العالم، وبالتالي الإنسان، لا يمكن أن يكونا إلا إذا أُوِّلا بواسطة العلامات، فبحسب العالم الأميركي «بيرس»، فإن العالم بما يحويه من أشياء وكائنات، هو عبارة عن منظومة سيميائية، كما أن الإنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي ينتج العلاقات ويكتشفها ويتداولها وينقلها إلى غيره، يمكن عدّه العلامة الكبرى، وهذه العلاقات والعلامات هي التي تجعل من الإنسان إنسانا، أي تصنع هويته الإنسانية والثقافية، وتجعله متميزا عن الكائنات والموضوعات الأخرى، هذا شيء من انسانية الشاعر عبد الجبار الجبوري:
أنتِ جائحَتي،وماءُ الكلام،))
سيدةُ الحزنِ، ومَعْنى الغَرام
،كيفَ يسبِقُني الموتُ إليكِ وأنتِ مَعي،
وكيفَ تدركُني الجوائحُ،وأنتِ نجمةُ جوائحي،
وحَتفُ نَوائحِي ،وشَجنُ أيامْي المثقلاتِ بالمَطر،
قلتُ لكِ، جائحَتي أنتِ وأنتِ الملاكْ،
وكلُّ النساءِ بعدكِ جوائحٌ وهَلاكْ))...
في الختام يجدر بنا التساؤل، هل النص الأنوي، هو جحود لدور ( الأنا الاخر) و( الآخر) في بناء القصيدة، وهل صوت ( الأنا) عندما يرتفع على بقية اصوات الخطاب، يضعف من امكانية القصيدة ان تتحول من نص ذاتي الى نص عام مشترك، وهل بامكان ( الذات) ان تقود سفينة القصيدة بآمان، نحو (قوة ابداع) تدفعها من المحلية الى العالمية، ام ستجنح بها نحو هاوية المفاجآت؟.
لقد اجابت قصيدة الشاعرعبد الجبار الجبوري (الجائحة) خير اجابة على هذه الأسئلة، عندما اثبتت أن بامكان النص الأنوي ان ينطلق الى عالم ( الآخر) ويؤسس له أوجاعه الخاصة، ثم يؤسس نصوص شعرية مائزة رائية، لها قوة ابداع تؤهلها فعلا الى الابحارفي لجج عارمة، وتتجاوزها بسلام باتجاه مرافىء الابداع.
الهوامش والمصادر والمراجع
1. بنية القصيدة في شعر عز الدين المناصرة،د.فيصل القصيري ،وزارة الثقافة، الاردن،200061.:36
2.شعرية طائر الضوء،أ.د. محمد صابر عبيد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1،بيروت،2004،:45
3.كلام المرايا(دراسات نقدية في الشعر والقصة والمسرح والرواية)،كمال عبد الرحمن ، الشؤون الادبية،النشاط المدرسي،تربية نينوى،(39)2011،:42
0 تعليقات