فصل جديد من التخبط الدولي في ليبيا

مشاهدات



محمد أبوالفضل


تحرص الكثير من القوى المعنية بالأزمة الليبية على استمرار العملية السياسية، ومنع انهيارها تماما، أو وقفها عن الحركة الدؤوبة، وفي أوج التعثر الذي يلازمها منذ تفجرها هناك من يقدمون حبل إنقاذ كي لا تصل إلى طريق مسدود، يجبر بعض القوى على مواجهة الحقيقة عارية، ويدفع إلى تبني مواقف أكثر تحديدا ووضوحا.

ظهر خلال الأيام الماضية شكل جديد، أو حلقة من حلقات الشد والجذب السياسي، ربما تمنح قوى رئيسية فرصة لالتقاط الأنفاس تبقي العملية السياسية على قيد الحياة، لأن إعلان وفاتها رسميا يضع كل طرف أمام مسؤوليته الأخلاقية، فبعد أن اصطدمت الحوارات الممتدة في تونس والمغرب ومصر وجنيف وباريس وروما وبرلين بممانعات من جهات مختلفة، جرى اللجوء إلى سلاح فريق المراقبة الدولية.

أوصى أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة قبل أيام، بنشر مراقبين غير مسلحين وغير نظاميين، يعملون جنبا إلى جنب مع فرق مشتركة من الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وحكومة الوفاق بقيادة فايز السراج، في منطقة سرت، لمراقبة وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه اللجنة العسكرية المشتركة (5 + 5) في جنيف أكتوبر الماضي، دون أن يقدم الرجل تفاصيل دقيقة حول آلية المراقبة.


احتل حديث المراقبين مساحة من النقاش الدائر حول الأزمة، فمع أن الاقتراح خاص بخبراء مدنيين وعسكريين سابقين، وغالبيتهم من دول عربية وأفريقية، غير أن النقاش قاد البعض وانحرف بهم للحديث عن قوة دولية مسلحة لحفظ السلام ووقف إطلاق النار، وهناك فرق شاسع بين الجانبين، فالأولى مهمتها المراقبة وترفع تقريرها للمنظمة الأممية دون تدخل مسلح، بينما الثانية مخولة به عند اللزوم.

ألهبت الفكرة حوارات الليبيين، وزادتهم انقساما كالعادة، فمع كل مقترح سياسي أو تطور عسكري تتفجر نقاشات، قوى مع وأخرى ضد، ولم يتوافر ولن يتوافر إجماع وطني حول مقترح ناجز، طالما التباعد بين القوى المؤثرة ما زال مستمرا، والتدخلات الخارجية تتواصل، ولا توجد إرادة دولية تتولى تفكيك العقد السياسية والعسكرية.

في كل المحطات الإقليمية والدولية التي سعت نحو حل الأزمة الليبية، لم تنتج أي منها صيغة مناسبة، قابلة للتنفيذ، وعندما بدت التسوية قريبة مع انعقاد ملتقى تونس مباشرة في أوائل نوفمبر الماضي، دخلت عليه عوامل تشويش لاحقا متعمدة، جعلته يواجه مصيرا غامضا يشبه المبادرات والملتقيات السابقة.

قد يكون حديث فريق المراقبة الدولية التفافا على مطلب سابق تبنته الولايات المتحدة وحاولت البعثة الأممية ترويجه بشأن تثبيت قوة عسكرية لمراقبة وقف إطلاق النار في سرت والجفرة، وقد يكون تعبيرا عن حاجة إلى ضمان منع انهيار وقف النار، وفي الحالتين لا يغوص في الجزء الغاطس منها، والمتعلق بوجود ميليشيات متصارعة.

نشط طرح فريق المراقبة، مع تزايد حدة التلويح بالتصعيد بين الجيش الوطني الليبي والقوات التابعة لحكومة الوفاق مؤخرا، ما يوحي بأن المجتمع الدولي مهموم بالحفاظ على حد أدنى من الهدوء في ليبيا، ولا يريد اندلاع اشتباكات ساخنة تفرض خيارات حرجة لقوى رئيسية منخرطة في الأزمة.

يضمن الطرح أيضا تهيئة الأجواء لمساحة من الجدل حول نوعية وخبرة أفراد قوة المراقبة، ومن أي جهة، وأي الدول سوف تكون لها أغلبية، وصولا إلى الدخول في تفاصيل انتماءات الخبراء والمراقبين، ودور جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي في اختيارهم، وهل هو طريق في ظاهره رحمة وفي باطنه المزيد من العذاب، بحكم التشابكات الإقليمية المعروفة في الأزمة الليبية؟


تقود السرديات السياسية المتعددة إلى منح الفرقاء فرصة لالتقاط الأنفاس، حيث يستغرق تشكيل فريق المراقبة وقتا ربما ينتج وضعا مختلفا، ويتمكن كل طرف من ترتيب أوراقه، ويتواصل الدوران في الحلقة المفرغة التي لم يبذل كثيرون جهدا لتغادرها ليبيا، ووجدوا فيها وضعا لا يحقق مكاسب لأصحابه لكن يجنبهم تكبد خسائر.

إذا أرادت القوى الكبرى التعبير عن حرصها على تسوية الأزمة، عليها أن تضبط دفة بعض الأمور التي تمثل مدخلا رئيسيا للحل، فقبل تعيين المراقبين والدخول في جدل عقيم حول هوياتهم، عليها أن تتخذ موقفا صارما من تدفق الأسلحة والمرتزقة على ليبيا حتى الآن، ومنع تركيا من استغلال الموقف المترهل وتشييد قواعد، حيث استفادت من استمرار السيولة، وزادت من تمركزها في مفاصل مهمة بالدولة الليبية.

وإذا أرادت الأمم المتحدة أن تقوم بدور يحسب لأمينها العام وبعثة الدعم السياسي في ليبيا تحت قيادة رئيستها بالإنابة ستيفاني وليامز، من الضروري تحديد الجهات المعرقلة للحل بلا مواربة، ودواعي استنزاف الوقت في مناقشات معروف سلفا أنها غير منتجة، إلا إذا كانت مطلوبة في حد ذاتها للتغطية على إخفاقات متتالية.

تبدو الأوضاع هادئة الآن، لكن أخشى أن يكون الهدوء الذي يسبق العاصفة، التي يمكن أن تسبق هبوط المراقبين الدوليين للتموضع في أماكنهم داخل سرت أو غيرها، فهذه المهمة التي لم يصدر مجلس الأمن الدولي قرارا بشأنها قد تصبح وسيلة للخلاف أكثر من الاتفاق، حيث يحيط بها بعض الغموض حول دورها والمهام المنوط القيام بها، والجهة أو الجهات المسؤولة عن معاقبة فورية لمن يخرق وقف إطلاق النار.

من المؤكد أن المنظمة الدولية تعلم أن أحد أسباب إطالة عمر الأزمة يكمن في التباين الكبير في حسابات قوى إقليمية ودولية معنية بها، وتضارب المصالح بينها، ورغبة البعض في السيطرة والاستحواذ على جزء معتبر من الثروة الليبية، فضلا عن صراع واسع حول طبيعة الدور الذي تقوم به قوى محلية في رسم مستقبل البلاد.

رغم كل الضجيج الذي يبديه المجتمع الدولي حيال ليبيا، غير أنه يصر على عدم المضي قدما في الاتجاه الصحيح، وأخشى أن يتحول فريق المراقبة إلى فخ يدخل الأزمة في تعقيدات من نوع آخر، ويُلهي المواطنين عن الداء الحقيقي، الميليشيات والكتائب المسلحة وفلول المرتزقة، وكثرة التدخلات الخارجية ممثلة في تركيا تحديدا.

لتجنب الدخول في فصل أشد غموضا، يجب الشروع بالتوازي في تحريك المسارات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وزيادة وتيرة الشفافية والصدق والصراحة التي يتم العمل بها داخل كل مسار، قبل أن يصبح الخلل عصيا على التصويب.

إرسال تعليق

0 تعليقات