مَفاهِيم حَوْلَ الشعُور بالسَعَادة والسرُور

مشاهدات



صَلاح يوسُف الدَهَش


في أحَدٍ الأيّام كُنتُ مَع بَعضِ الأصدِقَاءِ ودَار حَديثٌ حَوْلَ فَحوَى السَعادَة، وهَل هُم سُعَداء كَما يَرجَون ؟!. بَقِيَ المَوضوع يُراوِدني لِفَترَةٍ طَويلَة وأَلَحَّت عَلَيَّ بَعض الخَواطِر وَحَفَّزَتني للبَحثِ فيهِ، وهَا أنا اليَوْم أُحاوِل أنْ أكتُبَ خاطِرَتي وبإخْتِصارٍ شَديد عَسَى أَنْ أُوَفَّقَ بِطَرحِها لَكُم كإحدى وَسَائِل تَطويرِ الذات نَحوَ الأَفْضَلِ بِتَفكيرٍ إيجابِي قَدر الإمكان. فَكَما هوَ مَعلوم لَدى الجَميع أنَّ قراءَةَ أيَّة خَاطِرَةٍ أو مَقالَةٍ هيَ بِمَثابَةِ عَمَلِيَّة فِكرِيَّة عَقلِيَّة يَتَفاعَلُ مَعَها القارِئ لِيَسْتَوعِبها ومِنْ ثَمَّ يُمكِنُ إستِخْدامَها والإنْتِفاع بِها في حَلِّ المُشْكِلَاتِ الحَيَاتِيَّة والمَواقِف المُخْتَلِفَة. وبِلا شَك، غالِبًا ما يَجِدُ القارئ اليَقِظُ نَفْسَهُ في مَتاهَاتٍ مَعرِفِيَّة دَقيقَة في بَعضِ الكِتَابَاتِ المَنطِقِيَّةِ والفَلسَفِيَّة، فقَد يُوَفَّقُ (أو يَفْشَل) في إكْتِشَاف مَعَالِمِها وجَلاءِ خَفايَاهَا وفَكِّ طَلاسِمِهَا إعتِمَادًا على ما يَملُك مِن مُستَوى الفَهْمِ والإدراكِ والبَصرِ والبَصيرَة، مِمَّا يَتَطَلَّبُ التهيّؤ والقراءة بتَمَهّلٍ وإمْعانٍ لإسْتِعابِ الأفكَارِ ومُحاوَلَة تَطبيقها عَمَليًّا.

كَما هوَ مَعْلُوم مَا لِلسَعَادةِ مِنْ آثَارٍ إِيجَابِيَّةٍ عَلى النَفْسِ البَشَرِيَّةِ وُصولًا الى مَراحِل الرِضَا عَنِ الذّاتِ وَعَن الآخَرينَ، لٍذا يَسعَى كُلُّ إِنسَانٍ أَنْ يَعيشَ بِسَعَادَةٍ وسرورٍ، وَلَكِن ولِلأَسَفِ الشَديد لا نَرَى الكَثير مَمَّن يَشْعُرُ بِتِلْكَ السَعَادةِ !!، فَقَد يَكونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ إِخْتِلاف الرُؤى لِمَفهُومِها حَسْبَ جَوَانِبِ حَيَاتِهِم، مَاديَّة كَانَت أو مَعْنَوِيّة؛ فَمِنهُم مَن يَظنُّ أَنَّ تَحقِيقَها يَكْمِنُ بجَمْعِ المَالِ وآخَرونَ يَرَوْنَها بالمَنْصِبِ والمَنْزِلَةِ والجَاه … وهَكَذا … لَكِن، يَبْقى عَدَم الشُعور بالسًعادَةِ مُخَيِّمًا بِمُخَيَّلَتِهِم رَغْمَ تَحقيق ما كَانوا يَظِنّونَ.

ويُعَدُّ مَفهوم السَعادة إشكالِيّةً في البَحثِ للوصول الى تَعريفٍ مُحَدّد وَواضِحٍ لهَا. لذلك، وبشكلٍ عام، يُمكِن القَول أنَّ الشُعُورَ بالسَعَادَةِ هي حَالَة نِسْبِيَّة مُعْتَمِدَةً على قُدُراتِ كُلّ فَردٍ ودَوافِعِهِ وإمْكَانَاتهِ. فَفي عِلمِ النَفْس، يوصَفُ مَفْهُوم السَعَادةِ أَنَّهَا شُعُور الإنسَانِ بالرِضَا والسُرور عَنْ حَياتِهِ التي يُمَارِسهَا نَتِيجَة مَشَاعِرِهِ وإنْفِعالاتِهِ السّارَّة الّتي يَتَعايَشُ مَعَها خِلال تَعامُلِهِ مَعَ المُعطَيَاتِ المُحيطَة بِهِ والمَواقِفُ الحَيَاتِيَّة التي يَحْيَاها. ويَبقَى مَنْبَع الشعُور بالسَعَادَةِ مِن داخِلِ النَفس البَشَرِيَّة ولَيْسَ بالمَظاهِرِ الخارِجِيَّة كَما يَظِنُّ البَعض. وَمِنْ أجلِ الوُصول الى قَدْرٍ مُقنِعٍ مِن هَذا الشُعور، لابُدَّ مِن تَوَفّرِ بَعض المُتَطَلَّباتِ، التي مِن أبرَزهَا الآتي:

(١)  الحصُولُ عَلى الإكتِفاءِ المَادّي والضَروري، وَلَو بالحَدِّ الأدنَى، لِتَلبِيَةِ الإحتِياجَاتِ الأساسية لِلمَعيشَة.

(٢)  التَمَتُّع بتَمام الصَحَّةِ والسَلامَةِ الجَسَدِيَّةِ والذِهنِيَّة.

(٣)  إمكَانِيَّة الإسْتِفَادَة مِنَ الزَمَن والإنشِغَالِ بالأعمالِ والنَشاطاتِ المُفيدَة.

(٤)  صِيَاغةُ أهْدافاً مُحَدَّدَة يُمْكِنُ تَحقيقَهَا عَلى أرضِ الواقِعِ.

(٥)  إمكَانِيَّة التَعَامُل ضِمْنَ أسَاليبِ الأنْمَاطِ السُلوكِيّةِ الإيجابِيَّةِ السَوٍيَّة والإبْتِعَادِ عَن كُلّ ما هوَ سَلْبيّ ويُؤَدّي الى التَعاسَةِ.

(٦)  تَبَنِّي الرَغبَة الداخِلِيَّة الأكيدَة لِلوصولِ الى السَعادَة والتَحَلّي بالصَبرِ الجَميلِ والتَخَلّي عَن اليَأس (إنَّ الله مَعَ الصَابِرينَ). 

   وَمِنْ أَجْلِ تَحْسِينِ مَجرَى الحَياة والسَيْرِ بِإتجَاهِ الشُعُورِ بالسَعَادَةِ، لا بُدَّ مِن الأَخذِ بِبَعضِ الثَوابِت الآتِيَة:

( أ )  الإقتِنَاع والثِقَة التَامَّة بالقُدرَةِ عَلى إسْعادِ الذَات. 

(ب)  إحتِرامُ ثِقَة مَن يَبُوح لَكَ بِسِرٍّ، فَلا تَبوحَ بِهِ لِلآخَرين مَهْما كانَ أو يَكُن، وابْقَ مُخْلِصًا وَفِيًّا. 

(ج)  حاوِل أَن لا تُظْهِرَ ما بِداخِلِكَ مِن آلامٍ للآخَرين، فَيَتَأَلَّم مُحِبِّيكَ ويَفرَح الحَاقِدينَ (تَظاهَر بِأنَّكَ بخَير دائِما مَهمَا عَصِفَت بِكَ الحَياة ، فالكُتْمان أجمَل بِكَثير مِن شَفَقَةِ الآخَرينَ عَلَيكَ).

(د)  مِن أَجلِ تَفادي الإنْكِسار النَفْسي، لا تَكْرَه أَحَداً وَلا تُبالِغ في عُمقِ حُبّك للآخَرين، واحْتَفِظ بِقَلْبِكَ لِمَن يَستَحِقّهُ، وَلا تَسْتَنِد كُلِّيّاً عَلى أيٍّ كَانَ كَي لا تَهْوِي، وكُنْ مُسْتَعِدّاً لِغِيابِ مَنْ تَتَعَلَّق بِهِم، وإرحَل بِهِدوءٍ وسَلامٍ وأمَانٍ حَالَما تَشعُر أنْ لا وجُودَ لَكَ، أو إحتِرامًا، في قَلبِ مَن تُحِب.

( ه )  حَاوِل أَن تَتَصَرَّف بِإِعتِدال في كُلِّ مفاصِل الحَياة الدُنيَوِيَّة مَع إبقاءِ عِزَّة النَفسِ عِنْدَكَ طاغِيَةً. فَمَن لا يَهْتَمُّ لأَمورِكَ لا تَهْتَم كَثيراً لأمُورِه مَهْمَا كانَ جَمالُ المَحَبَّةِ لَدَيْكَ، تَبْقى الكَرامَةُ هيَ الأجمَل.

( و )  لِيَكُن إخْتِيارَك وتَقْييمَكَ لِلآخَرينَ عَلى أُسُسِ ما في قلُوبِهِم ولَيْس عَلى أشكالِهِم ومَظاهِرِهِم، ومِن خِلالِهِم مُباشََرَةً لا مِن خِلال سَماعِ أو قِراءَةِ ما يُقالُ عَنْهُم.

( ز )  مِن أَجلِ أن تَجِد لَكَ مَكاناً في قلُوبِ الآخَرينَ عَلَيْكَ أن تُعْطِيَهُم مِن وَقتِكَ الثَمين، لا مِن وَقتِ فَراغِكَ.

( ح )   مِنَ المَنْطِق أن لا تُؤذي أَحَدًا، أيّاً كانَ، بِما لا تُحِب أن يُؤذيكَ بهِ الآخَرونَ، لِذا تََصَرَّف مَعَ الجَميع، كَما مَعَ نَفسِك، بِحُسْنِ التَعَامُلِ والبَسَاطَةٍ والسِلْمِيَّةٍ.

( ط )  لا تَطْرُقَ أبْواباً لا يَرغَبُ أصْحَابُها بِفَتْحِها.

( ي )   حَاوِل جَاهِداً أن تَعيشَ يَوْمُكَ حُرّاً بِسَعادَةٍ وفَرَحٍ، وَتَجاهَل ما يَسْلِبُهُما مِنْكَ، لأَنَّ الوَقْتَ إذا مَرَّ لَنْ يَعود. فَواجِه الأحْداثَ كأَنَّها تَحمِلُ رِسَالَةً، وَواجِه المُشكِلاتَ بإِعتِبارِها فُرَصًا للتَغيير.

( ك )   كُن واضِحاً وصَريحًا بالحَقِّ ولا تَتَصَنَّع بِتَصَرُّفٍ خِلافِ ذلِكَ، بِما يُعَدُّ نِفاقًا، حَتّى ولَو تَخسَرَ مَن هُم حَولَكَ (لا تَسْتَوْحِشُوا طَريقَ الحَقِّ لِقِلَّةِ سَالِكيهِ).

( ل )   يُمْكِنكَ التَأَكّد مِن صِدْقِ مَحَبَّة الآخَرينَ مِن خِلالِ أفْعَالِهم لا مِن خلالِ كَلامِهم لأَنَّ الجَميع يُجيدُ معْسُولَ الكَلام. 

( م )   لا تَبْني حُكْمَكَ على الآخَرينَ مِن خِلالِ إخْتِيارِكَ أنْتَ مِمّا تَراهُ فيهِم، بَل لِيَكُن حُكْمكَ مُعتَمِداً على كُلِّ ما فيهِم، وَليَكُن ظَنُّكَ بِهِم خَيْراً قَبْلَ أن تَتَأكَّد مِن عَكْسِ ذَلِكَ.

( ن )   حِينَما تَجْهَل المَقْصُود مِن قَوْلِ المُقابِل، لا تُحاوِل تَفْسِيرَه كَما تُريد، بَل إستَفسِر مِنْهُ عَن المَقْصُود، وَكُنْ صَريحًا الى حَدِّ الإعْتِرَاف.

( س )   تَحاشَى الحَديثَ عَنْ واقِعَةٍ لَنْ تَكُن حَاضِراً فِيهَا، ولِكَي لا تُرْهِقَ نَفسَكَ إبْتَعِد عَن مُتَابَعَةِ وَمُراقَبَة الأمَاكِن والأحدَاثِ التي لَيْسَ لَكَ فِيها شَأن.

( ع )   الصَبْرُ مِفتَاح الفَرَج، فلا تَيْأَس ولا تَشْعُر بِخَيْبَة الأَمَل، وَثِق أنَّكَ سَتَصِلَ الى اللَحظَةِ المُنَاسِبَةِ التي تَبْغيهَا. (لِلصَبْرِ نُعُوتٍ أو تَسْمِيَاتٍ مُختَلِفَةٍ : فَيُدعى وَفَاءً حينَمَا تَصْبُر مِن أَجلِ الصَدَاقَةِ، وكُتْمَانًا عِنْدَ حِفْظِكَ لأسْرارِ الآخَرينَ، وَإِيمَانًا بِصَبْرِكَ عِنْدَ المَصَائِب، وَقَنَاعَةً بِصَبْرِكَ عَلى شِحَّة المَال والمَأكَلِ والمَلْبَس…) فَمَهْما كانَ الصَبْرُ مُرّاً فالحَلاوَة تَكْمِنُ في عَاقِبَتِهِ.

وَخِتَامًا، فَإِنَّ وصُولَ الفَرد لِمُبْتَغاه في الشُعُورِ بالسَعَادةِ والسُرورِ لَيْسَت كافِيَةً لإسْتِمْرارِيَّتِهَا، مِمّا يَتَطَلَّب مِنْهُ تَحقيقَ عَوَامِلَ عِدَّة، إنْ إسْتَطَاعَ، مِن أجْلِ أن يَنَالَ ذلِكَ المُبْتَغى (المُسَمّات بالسَعَادة). وَمِنْ أهَمِّ العَوامِل المَطْلوب، مِنَ الفَرْدِ، تَحقِيقهَا يُمكِنُ إيجَازهَا بالآتي:

١ـ  أنْ يَكونَ مُقَدِّراً لِذاتِهِ وَلَهُ ثِقَة عالِيَة بِنَفْسِهِ، دونَ غُرور، وإحسَاسِهِ العَميق بِقُدرَتِهِ عَلى السَيْطَرَة التَامَّة وإمتِلاك قاعِدَة التَوازن لأَوضَاعِهِ النَفسِيَّة والذاتِيّة، وعَدَم إستِنْكار القَليل مِن مَشاعِر القَلَق والشَك والإضطِراب. وهُنَا يَتَوَجَّب التَغَلُّب على القَلَق بالصَبرِ وتأجيلِ ردُودِ الأفعَالِ السلبِيَّة والتَحَكّم بِهَا ومُحَاوَلَة تَفسير الأحداث بإيجابِيَّة وتَحْليلَهَا بِواقِعِيَّة لِمَعرِفَةِ حَجمَهَا الحَقيقي مِن أجلِ موَاجَهَة المَخَاوف إن وُجِدَت.

٢ـ  العَمَل الدَؤوب والمُستَمِرّ لإنْجَازِ الوَاجِبَات الحَياتِيَّة اليَوْمِيَّة المُفيدَة بٍتَفاؤُلٍ وإتْقَان، ومُقاوَمَة اليَأسِ بالتَصَبّر والرِضَا.

٣ـ  الإنْدِمَاج الوِدِّي بعِلاقَاتٍ إجتِماعِيَّةٍ حَميمِيَّة مَبنِيَّةٌ عَلى مَبدَأ التَسَامُح والتَغَافُر والعَمَل عَلى خَلْقِ فَعَّالِيّات تَرفيهِيَّة جَماعِيَّة، تُعطي النُفُوسَ شُعُورًا مِنَ البَهْجَةِ والسُرور مُؤَدِّيَةً الى السَعَادةِ المَنْشُودَة.

أرجو لِلجَميع أن يَعيشوا بِسَعَادَةٍ وَسُرور.

إرسال تعليق

0 تعليقات