فشل إعلامي

مشاهدات



سهى الجندي


قناة الجزيرة تمكنت من تحقيق الأرباح من خلال مركز الجزيرة للإعلام ونجحت في خلق اسم تجاري بعيدا عن البث المباشر.

القناة ومعايير الخطاب لكسب المال والعقول

لماذا نجحت قناة الجزيرة في جذب أضعاف عدد مشاهدي القنوات الأخرى؟ هل هو المحتوى أم الأسلوب؟ إنه مزيج من الاثنين، وإذا ما رجعنا إلى فلسفة أرسطو الذي حدد معايير نجاح الخطاب بثلاثة أمور هي: مخاطبة العقل “logos” ومخاطبة الأخلاق “ethos” ومخاطبة المشاعر “pathos” نجد أن الجزيرة نجحت بموجب هذه المعايير بينما أخفق الآخرون.

هذا من حيث المحتوى. أما من حيث الأسلوب، فقناة الجزيرة تعرض المادة الإعلامية بشكل مشوق وتبتعد عن الرتابة والملل، فهي تتنقل ما بين موضوع وآخر سريعا، وتجلب كبار المفكرين ممن يسيرون على النهج التحريري للقناة، وفي المقابل، فإنها تبلغ ذروة التشويق في برنامج الاتجاه المعاكس الذي يعرض وجهات النظر المختلفة في مواضيع في غاية الأهمية وكثيرا ما يتحول الحوار إلى شجار فيبلغ الحماس مداه لدى المشاهد ويفهم الواقع ومواقف الأطراف المختلفة بدلا من البحث عن المعلومات بنفسه فيجدها جاهزة له فيستمر في مشاهدتها دائما لأنها تشبع فضوله بيسر وسهولة.

أما من يقول “لا نريد هذا المستوى من التوتر” فهو مخطئ لأن المنطقة كلها مشتعلة وعلى القناة أن تكون في مستوى الأحداث.

التفوق على قناة الجزيرة لا يتم إلا من خلال تقديم ما يروق للمشاهد من حيث المحتوى المقنع عقليا وعاطفيا وأخلاقيا وبالشكل والسرعة وحذف الإعلانات التجارية

في المقابل، نجد أن القنوات الأخرى ليست بذات الثراء التحليلي ولا يوجد توازن في توزيع الوقت ويتخلل برامجها الكثير من الإعلانات التجارية مما يجعل المشاهد يتحول عنها إلى قناة تقدم خلاصة الكلام بشكل مباشر ولا تستهلك صبر المشاهد وبالتالي تخسره.

إن المشاهد العصري لم يعد كالسابق وليس لديه استعداد أن يجلس ساعة يستمع إلى خطاب أو كلمة مندوب، وإذا انتظر عشر دقائق وهو يستمع إلى معلومات يعرفها، فإنه يتحول سريعا إلى غيرها. ولا عجب، فلديه عروض كثيرة جدا فلماذا يصبر على المتحدث البطيء أو البليد؟

إن الفوز بالمشاهد يعني الفوز بموقفه على الأغلب، إذا استبعدنا أولئك الذين يشاهدون القنوات لكي يقارنوا التحليلات. أما رجل الشارع، فهو يطرب عندما يسمع الإصرار على المبادئ الإسلامية والوطنية بصرف النظر عن الكم الهائل من المتغيرات على أرض الواقع.

ما هي المواضيع التي يريدها المشاهد الآن؟ إنه يريد الجديد حول وضع كورونا والرحلات الجوية والانتخابات الأميركية والأحداث في منطقة الخليج وفلسطين وليبيا واليمن والعراق وسوريا بالإضافة إلى الرياضة وأسواق المال، شريطة تقديم صفوة الكلام وبسرعة نسبية، وإذا لم يجد ما يبحث عنه فإنه يتحول إلى قناة أخرى تقدم له طلباته بسرعة وبشكل مشوق عبر عرض الخبر وتحليله مع مشاهد لمواقع الأحداث، فإذا رضي المشاهد عن القناة، فإنه يتابعها بانتظام.

كيف يريد المشاهد أن يقدَم له هذا المحتوى؟ بالطبع، فإن هذا لا يقرره المشاهد، بل تقرره القناة، وكلما كان مستوى كفاءتها أعلى، كلما نجحت في استبقاء المشاهد، فلا تعطي خلاصة الكلام بأسلوب منفر، بل تظهر بمظهر المعتدل والمنفتح على الرأي والرأي الآخر، ثم تمرر الرسالة التي تريد توصيلها بشكل مقنع وراق كميا ونوعيا وفنيا، أي أنها تكسب تأييده بالقوة الناعمة.

هل يعقل أن قناة الجزيرة ليس لديها رجال أعمال يرغبون بالإعلان لديها؟ إن رجل الأعمال يطلب الربح من الشيطان نفسه، ولكن القناة تعلن فقط للشركات الحكومية القطرية وليس لرجال الأعمال، لأنها لو فتحت الباب للمعلنين فربما تخسر المشاهد الذي هو رأسمالها. فالإعلانات التجارية تجلب ربحا سريعا ولكنها تضر بالقناة ضررا بالغا على المدى البعيد أو ربما القريب. وقد تمكنت قناة الجزيرة من تحقيق الأرباح من خلال مركز الجزيرة للإعلام الذي يقوم بالتدريب وإصدار شهادات للمتخرجين ونجحت في خلق اسم تجاري مرموق لها يجلب الأرباح بعيدا عن البث المباشر.

استقطاب قطري تحت غطاء إعلامي استقطاب قطري تحت غطاء إعلامي

من هنا، نستنتج أن استقطاب الجزيرة للمشاهدين يعني كسبهم إلى جانبها، على الرغم من أن قطر نشرت الدمار في بلاد العرب، وتمكنت من تقديم نفسها كمدافعة عن القيم الإسلامية ونصيرة للدول الإسلامية مثل تركيا وإيران، ولن يدرك المشاهد المتحمس للإسلام السياسي الآثار بعيدة المدى إلا عندما يلمس بشكل مباشر النتائج الوخيمة لسيطرة تركيا وإيران على المنطقة.

هناك من يحذر من أن الجزيرة ستنجح في نهاية المطاف في تحقيق هدفها، وذلك لأن تركيا وإيران لديهما طول نفس وسوف تصبران وتتحملان الفقر والدمار وانهيار الاقتصاد حتى تحققا أهدافهما، ولكن العرب ليس لديهم ذات الجَلَد وطول النفس ولن يتحملوا انهيار الاقتصاد والبنى التحتية حتى آخر رمق. وجميعنا نذكر أن “المجاهدين الأفغان” تمكنوا من دحر الاتحاد السوفييتي من الكهوف. فهؤلاء محاربون متطرفون ولا يكترثون بانهيار الاقتصاد والدولة برمتها.

فالمطلوب إذن هو الخروج من هذا الركود والتصدي لقناة الجزيرة والتفوق عليها لكسب المشاهد لأنه رأس المال الحقيقي. وهذا لا يتم إلا من خلال تقديم ما يروق للمشاهد من حيث المحتوى المقنع عقليا وعاطفيا وأخلاقيا والشكل والسرعة وحذف الإعلانات التجارية وتجنب الملل بشكل تام.

كاتبة فلسطينية

إرسال تعليق

0 تعليقات