د. باهرة الشيخلي
اعتماد اللامركزية لا يخدم العراق في الظرف الحالي، لما يمكن أن تقود إليه من تخبط في القرارات والتوجهات الاقتصادية وبخاصة في مجال النفط، كما أنها قد تؤدي إلى تشظي البلاد.
عراق المستقبل يصنعه الشباب الثائر
أثار لقاء تلفزيوني مع مقرر لجنة المباني الأساسية (اللجنة الأولى) الدستورية النائب السابق ضياء الشكرجي، زوابع جديدة بشأن الدستور العراقي الحالي، وتداولت هذا التصريح مواقع التواصل الاجتماعي، الذي عدّه كثيرون داعما للمطالبة الشعبية بإلغائه وكتابة دستور عراقي بأيد عراقية.
كشف الشكرجي عن أنه كان مقرر اللجنة الأولى الدستورية (لجنة المباني الأساسية)، وأنه اعتذر عن مواصلة دوره، بعد الجلسة الخامسة لهذه اللجنة، لضغوط مورست عليه بهدف أن يكتب التقارير أو المحاضر خلاف ما يحصل في اللجنة الدستورية، وأن يدرج ما لم يقرّ في اللجنة الأولى.
وعندما سأله مقدم البرنامج عن الجهة التي ضغطت عليه أجاب بأن “رئيس لجنة المباني الأساسية الأولى أحمد الصافي، ممثل المرجعية الشيعية في النجف، الذي كان يضغط عليّ ويطلب مني عدم توزيع المحاضر عندما أكتبها وأطبعها ثم يطلب مني أن أسحبها”، وكذلك رئيس لجنة كتابة الدستور همام حمودي، الذي سرّب إلى جريدة الصباح، في وقتها، صيغة أدرجت فيها أشياء لم يتم الاتفاق عليها.
العراقيون وصفوا هذا الدستور، الذي كتب على عجالة، بأنه دستور ملغوم يحتوي على مواد ليست في صالح بناء دولة مواطنة. وبعدهم بدأ أشخاص، من داخل الوسط السياسي، يظهرون على شاشات التلفزيون، ويصفون الدستور بأنه ملغوم، وفقا لما تقتضيه مصالحهم.
جاء في معجم العقل السياسي الأميركي، الذي وضعه الدبلوماسي وأستاذ الفلسفة الدكتور عبدالستار الراوي، أن دستور 2005 وضع وأعدّ تحت الاحتلال، وكشفت صياغته الانقسامية، كما مواده العقيمة، عن مساوئ الاحتلال الأميركي ومنظري العدوان من قادة الأحزاب، أصحاب المصلحة الأولى في تكريس النفوذ الأجنبي، والمثابرة على تنفيذ المشروع المحاصصة والتجزئة، وتحويل العراق القوي الموحد إلى دويلات وأقاليم عرقية ودينية ومذهبية، تحت أساطير اللاهوت السياسي، والدعاوى السياسية الساذجة.
الديباجة الإنشائية الانقسامية للدستور، تتضمن عبارة واضحة تقول “فسعينا يداً بيد، وكتفاً بكتف، لنصنع عراقنا الجديد، عراق المستقبل، من دون نعرة طائفية، ولا نزعة عنصرية، ولا عقدة مناطقية، ولا تمييز، ولا إقصاء”. واكتشف العراقيون، بعد وقت قصير، أن ما حدث كان عكس ذلك تماما، إذ سعى السياسيون، الذين احتلوا المواقع المتقدمة في قيادة الدولة “يدا بيد، وكتفا بكتف، ليصنعوا عراقهم الجديد، عراق مستقبلهم، بإثارة النعرات الطائفية، والنزعة العنصرية، والعقدة المناطقية، ورسخوا التمييز، والإقصاء”.
ذلك ما أدركه العراقيون، في وقت مبكر، فثار شبابهم في حراك شعبي مازال مستمرا، منذ سنة، للمطالبة بإزالة الطبقة السياسية المخادعة وإلغاء دستورها وكتابة دستور جديد بصيغه الشعب.
حفل دستور (العراق الجديد) بصياغات انقسامية، وأخرى مفارقة للواقع، بتغييب هوية الدولة العربية، وقد وصف العديد من فقهاء القانون وثيقة 2005 بأن ألغاما كثيرة تختبئ وراء نصوصها، وأنها قابلة للانفجار. وذلك ما أوجزه الخبير القانوني الدكتور عبدالحسين شعبان بنقاط، منها علاقة الدين بالدولة، متسائلا: هل حقا أن العراق “جمهورية إسلامية”، كما ورد في باب المبادئ الأساسية؟ علما وأن إضفاء الطابع الديني على الدولة، وإبرازه على حساب طابعها المدني سيترك تأثيراته وتبعاته القانونية والسياسية على الدولة ومستقبلها.
لأول مرة وبشكل رسمي يعمد الدستور إلى تكريس النزعة الطائفية داخل الدولة والمجتمع، بدلا من المواربة التي اتسمت بها قوانين الجنسية السابقة. ويبدو أن صيغة بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي في العراق، قد انتقلت عدواها إلى الدستور الدائم، حيث ورد في المسودّة “الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي (بأكثريته الشيعية وسنته)” (المادة الثانية من الباب الأول).
وكان الأجدر بالمشرّع، خصوصا في ظل الاحتقان الطائفي والتوتر الإثني، النص الصريح والواضح على: تحريم الطائفية ومعاقبة من يمارسها أو يدعو إليها أو يروّج لها أو يتستّر عليها، وذلك استنادا إلى المفاهيم الدستورية، التي تقوم عليها الدولة العصرية وبخاصة مبدأ المساواة وعدم التمييز.
سعى الدستور، كذلك، إلى التشظي الإثني والخلط المفاهيمي بين القومية والدين، عندما سمى العرب والكرد “قوميتين رئيستين” وأطلق تسمية “قوميات أساسية على التركمان والكلدان والسريان والأرمن والشبك والفرس وانتقل إلى الديانة الإيزيدية والصابئة “المندائيين” (المادة الثالثة). بالإضافة إلى أقليات قومية ولغوية ودينية أخرى يأتي على ذكرها بالاسم، والدستور يضمن حقوقها طبقا لإعلان الأمم المتحدة بخصوص حقوق الأقليات لعام 1992، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أساس التكافؤ والمساواة التامة والمواطنة الكاملة.
يلاحظ، أيضا، أن الدستور عوّم علاقة العراق بالعروبة، فالمشرّع لم يشأ القول إن العراق جزء من الأمة العربية، وهو عضو مؤسس في جامعة الدول العربية ويلتزم بمواثيقها واتفاقاتها، لما لذلك من اعتبارات أدبية ومسؤولية قانونية. وقد جاء النص وصفيا ودون التزام: “الدولة العراقية جزء من العالمين العربي والإسلامي” (المادة الخامسة).
الصحافة المصرية، التي كتبت الكثير عن الدستور العراقي، سخرت من تصريح أدلى به وزير الخارجية هوشيار زيباري عام 2005 في باب الجامعة العربية في القاهرة، ردا على سؤال الصحافيين عن الدستور وعروبة العراق، إذ قال بالفمّ الملآن: ومن قال إن العراق عربي؟
العديد من الكتاب تناولوا ما انطوى عليه الدستور من أخطار على مستقبل العراق، كل من وجهة نظره، إذ رأى الكاتب يوسف الفضل أن صياغة الدستور العراقي حفلت بالعديد من الألغام، التي يمكن تفجيرها تلقائيا أو بوساطة، ولعل من أخطر تلك الألغام هو ما شرّع للثروة النفطية، إدارة وتصرفا بالعوائد، خاصة أن ذلك ربط بإنشاء أقاليم وإدارة لامركزية مما سهّل تفجير الخلافات، كما هو واضح حاليا بين بغداد وإقليم كردستان.
اعتماد اللامركزية في المحافظات والأقاليم لا يخدم العراق، في الظرف الحالي لما يمكن أن تقود إليه من تخبط في القرارات والتوجهات الاقتصادية، وبخاصة في مجال النفط، كما أنها قد تؤدي إلى تشظي البلاد، كما هو واضح من الصراع الدائر داخل كردستان العراق من جهة وبين المركز وأربيل من جهة أخرى، فالمشكلة لا تكمن في الإدارة المركزية أو اللامركزية، بل في النضج السياسي والظروف الموضوعية المختلفة.
الكثير من العراقيين، الذين كانوا يطالبون بتعديل الدستور تراجعوا عن موقفهم، ليطالبوا، مع شباب الحراك الشعبي، بإلغاء الدستور وكتابة آخر جديد يتطابق مع تطلعات العراقيين كلهم.
يطالب الناشطون والمتظاهرون، اليوم، بدستور يخلو من أي إشارة تعزز الانقسام الطائفي والمذهبي، أو تغيّر من جغرافية البلاد الداخلية، بالإضافة إلى تعديلات تتعلق بعدد أعضاء مجلس النواب، معتبرين إياها مصدرا من مصادر ضياع الأموال العراقية، ولاسيما أن لكل برلماني سبعة عناصر حماية وبدلات إيجار بالإضافة إلى تخصيص سيارات ومكاتب، تستهلك سنويا عشرات الملايين من الدولارات.
مع العلم أن الدستور العراقي جعل عدد أعضاء البرلمان قابلا للزيادة مع زيادة عدد السكان، إذ فرض وجود نائب عن كل 100 ألف نسمة، ونتيجة لذلك ارتفع عدد أعضاء مجلس النواب من 275 في أول انتخابات أجريت عام 2005، إلى 329 في الانتخابات البرلمانية التي جرت في مايو 2018.
يأمل العراقيون أن يحقق لهم شباب الحراك الشعبي هذا الحلم والأحلام الأخرى التي يتطلعون إليها، وبخاصة إزالة العملية السياسية، التي يعدونها أسّ البلاء في وطنهم.
ختاما، إن دستورا بهذا العقم والصياغات الملغمة لا يليق ببلاد الرافدين، فهو دستور لا علاج له ولا إصلاح يفيد معه إلا بكتابته مجددا، بحيث تكون المواطنة جوهره ودليله.
0 تعليقات