المحتوى الهابط وتدنيس العقل على وفق نظام التفاهة

مشاهدات

 




حيدر علي الاسدي
كاتب واكاديمي



نعيش هذه الأيام موجة كبيرة لمحاربة (المحتوى الهابط) بعد ان قامت الجهات الأمنية في العراق بتطبيق القانون بحق كل من ينشر المحتوى المسيء المخل بالآداب والسلوكيات والأعراف المجتمعية العامة وعدت تلك الأفعال ضمن (المحتوى الهابط) الذي يتضمن البذاءة المسيئة للذوق العام بالاستناد على تجريم الإساءة للذوق والآداب العامة ، وبغض النظر عن الاختلاف والجدل بتطبيق تلك الفقرات القانونية على منتجي هذه المحتويات الا ان الحد منها بقوة القانون والردع قلل من هذه المحتويات التافهة في الأيام الأخيرة ، فالمحتوى الهابط لا يقل خطورة عن الجرائم الأخرى التي تُرتكب ، ذلك انه يؤثر وينتج سلوكيات مجتمعية بدورها تسهم (بأفعال تخريبية تحط من قيمة الانسان) بصراحة هذه الحملة ذكرتني بمضمون كتاب الفيلسوف الكندي (آلان دونو) الموسوم (نظام التفاهة) والذي يقول فيه باننا نعيش في مرحلة تاريخية شبيه (بنظام التافهين)، ولنظام التفاهة رموز تافهة ولغة تافهة وشخصيات وأدوات تافهة خاصة به، لأنه حسب دونو من الأسهل القيام بأشياء تافهة وملحة من القيام بأشياء مهمة غير ملحة، وانه "يمكن تدنيس العقل بشكل دائم من خلال عادة الاهتمام بأشياء تافهة" وعن نوافذ نشر المحتوى الهابط والتفاهة يعبر دونو في هذا الكتاب بمضمون جوهري وهو ان "مواقع التواصل نجحت في ترميز التافهين ،أي تحويلهم إلى رموز ،حيث صار بإمكان أي جميلة بلهاء ، أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين"، هذا يعني نحن امام ازمة حقيقية في السلوك لدى صناع المحتوى ، على وفق معطيات يشوبها النقص الكثير بنظام التربية في بلداننا (اتحدث عن الاخلاقيات في مرحلة الابتدائية ورياض الأطفال) ومشكورة مؤخراً اقرت وزارة التربية العراقية ادخال مادة الاخلاقيات في نظام المدارس والتي عملت بها اليابان قبل سنوات طويلة بعد ان عدت الحكومة اليابانية مادة" دووتوكو" أو الطريق إلى الأخلاق مادة إجبارية من الصف الأول الابتدائي إلى السادس الابتدائي ولها درجات نجاح ورسوب وتأثير على المعدل العام للطالب وعلى مستقبله الوظيفي في مرحلة لاحقة! ناهيك عن انتهاك خصوصية الاخر عبر التكنولوجيا متجاهلين اهم توصيات (اخلاقيات استخدام الحاسوب) والتكنولوجيا برمتها (قنوات نشر المحتوى الهابط) الا وهي (ضرورة مراعاة المحتوى الاجتماعي والشرائح المجتمعية كافة حين انتاج أي محتوى عام) وهذا ما اتفقت عليه كل الجهات المختصة بأخلاقيات استخدام الحاسوب والتكنولوجيا والانترنت ، فضلاً عن تحطيم مقولة (الحرية او الحريات العامة بنشر هذا المحتوى) بالاستناد الى مقولة مونتسكيو: "تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الاخرين". هذا يعيدني الى استشراف مستقبلي مهم قدمه الأمريكي (آندي وورهول) أواخر الستينات اذ تنبّأ بظهور وسيط إعلامي يوفر للشخص العادي حلم الشهرة السريع قائلا: "في المستقبل، سيتمكن الجميع من أن يصبحوا مشهورين شهرة عالمية خلال 15 دقيقة فقط" وهذا ما فعلته مواقع التواصل الاجتماعي عبر ملايين المحتويات الهابطة التي تبث يومياً، مثل هؤلاء الصناع اغلبهم من الشرائح غير المتعلمة ، والذين يعانون من تفكك اسري وضياع كبير ولا يملكون أي حضور بحياتهم الاجتماعية او ممن فشلوا في مستويات حياتهم كافة ، فقد هرعوا لمثل هذه المواقع لنشر يومياتهم (التي توازي مستوى تفاهتهم الهابطة) باحثين عن تحقيق الرغبات ومعمقين بذلك نرجسية مفرطة اخذت بتلابيبهم الى عالم (المال/ والاعلانات الممولة/والمظاهر الخارجية) معتقدين انفسهم هم من صفوة المجتمع ونجومه! واليكم الحقيقة الصادمة التي لا يعلمها حتى صناع المحتوى الهابط أنفسهم ، ان موجة الانتشار التي يشهدها أمثال هؤلاء عبر ما يسمى (الدعم) وسأتطرق لمثال واحد فقط وهو تحقيق الربح المالي عبر منصة التواصل الأشهر من حيث المحتوى الهابط واقصد (تيك توك) والتي تكون عبر تجميع النقاط التي يحصل عليها صانع المحتوى او البث عن الهدايا مثل الأسد، البرج، السيارة الذهبية، اليخت، الوردة البيضاء والحمراء، وغيرها من هدايا أخرى، سوف اطرح تساؤل مهم على صناع المحتوى وهو هل تعرفون جيداً من هم الذين يقدمون لكم هذا (الدعم) ام هم شخصيات مجهولة! وهذه المرة سأكون مؤمناً بنظرية المؤامرة وأقول ان هذه الشخصيات المجهولة الداعمة من خلف الشاشة الصغيرة هم من يرغب ان ينشروا الرثاثة والمحتوى الهابط في مجتمعاتنا، وانتم تتصوروا انهم يغدقون عليكم بالمال عن بعد لانهم يحبون (محتواكم) الذي انتم أنفسكم تصفونه بالتافه والعابر الذي لا قيمة له! اذن هناك ماكينات من خلف القضية هدفها إشاعة الرثاثة والسطحية وصناعة مشاهير لا يملكون أي محتوى جوهري في شخصياتهم وغير مؤثرين في الرأي العام بالقضايا الجوهرية او التي تسهم بتثوير الجماهير ضد اشكال الظلم او التي تغير من أزمات ومشكلات المجتمعات ، وانما هدفهم صرعات الشهرة وجني الأموال والمتع المتنوعة ، والدليل انك لو طرحت أي قضية تخص أمثال هؤلاء في (الواقع) سترى جميع من يستمع لك ينتقدهم بقوة بل يطالب بإيقافهم بشتى الطرق! اذن من هم أولئك الذين يقدمون الدعم لكم عن بعد يا صناع المحتوى؟! أرى ان الدولة معنية هي الأخرى ببرامج توعوية وتنويرية عبر مؤسساتها الثقافية والشبابية والتربوية وحتى الجامعات للتوعية ضد هذه القضايا التي تسيء لصورة الانسان اولاً وللمجتمعات ثانياً ولا تنتج لنا سوى نسخ رثة من أولئك الذين يبحثون عن المظاهر الخارجية وبهرجها بعيداً عن (جودة المحتوى) والذي يجب ان يتمتع به الانسان العصري في ظل كل هذه المتغيرات والقفزات النوعية المتطورة على مستوى جميع اصعدة الحياة.




إرسال تعليق

0 تعليقات