الهويّة السردية للمكان, قراءةٌ في رواية لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر للروائي محمود جاسم عثمان النعيمي

مشاهدات

 





إبراهيم رسول

التأسيسُ لهُويةٍ مكانيةٍ, تعني في ضمن ما تعنيه, أن تضع صورة لهذه المدينة ووجوداً خيالياً أو واقعياً, فبعض الروايات أسّست هوية للمكان خيالياً كرواية مائة عام من العزلة للروائي المشهور جابريل غارثيا ماركيز, فلو تصفحت خارطة العالم لن تجد أسماء لهذه المدن الخيالية التي جعلها مسرحاً لأحداث روايتهِ, إلا أنّ الروائي النعيمي, يعمدُ في رواية هذه ( الصادرة عن منشورات أحمد المالكي في طبعتها الأولى سنة 2020) إلى خلق هُويةٍ لمكانٍ تاريخيٍ حقيقيٍ له المكانة المميزة.  لم يأتِ الروائي بمكانٍ افتراضيٍ, بل جاءَ من مكانٍ واقعيٍ, ولكن التساؤل الذي يتجلّى للوهلةِ الأولى, وهو لماذا التأسيس لهوية مكانٍ معلوم؟! وقد أوضح في مقدمةِ الغلاف, أن هذه الرواية هي : رواية عن الكوفة وعكَد اللّوي. فهو يضع الغاية من هذه السردية في أوّل العتبات النصّية, ويستمرُ في الغائية لهذا التدوين في المتن منذ بدايتهِ. أن تؤسسَ هُوية للمكان, يعني أنّك خالقٌ! وفي عمليةِ الخَلق لا بُدَّ أن تكونَ مُبدعًا, حاولَ الروائيّ في مُجملِ روايته , أن يخلقَ هذه الهوية لمدينة الكوفة, وجاءَ السرد جلّه على هذه الفكرة, هي روايةٌ تعتمد على الحدث لا على تفاعل الشخصية , أي أن محور السرد يدور على المكان وليس على تفاعل الشخصّية في صراعها مع الحوادث التي تتطور كل آن. في بناء الرواية الأول, اعتمد السارد تقنية الوصف لملامح هوية لمدينة الكوفة, فهو يصفُ أدق التفاصيل اليوميّة, فالشخصياتُ في القسمِ الأوّل من الرواية, كانت ثانوية كلّها بالقياس إلى أهمية بناء السرد المكاني, واعتماد تقنية, هي التأسيس لهُوية مدينة, هذا التأسيس لم يذهب بعمقِ التاريخ, ولم يذهب عميقاً في عوالمه الاسطورية أو حوادثه الحقيقية, بل اعتمدَ تأريّخاً قريباً وحديثاً يكاد ألا يتجاوز عقود من الزمن لم تبلغ القرن بعد! البناءُ الفنّيُ للرواية, اعتمد تقنية, وهو أن يكون السارد المؤلف هو الراوي للسارد الثاني أي الشخصية. فيقولُ السارد المؤلف في صفحة 13: كان يقرأ, وفي الوقت نفسه يكتب, ويرى أن الكتابة فيها ( فرض عين)...) . ويقول في الصفحة ذاتها أعلاه: ( يحب مدينته, بل يعشقها ويذوب فيها...) . هنا يوضح لنا السارد المؤلف الدافع الذي يلّح على الشخصّية في الكتابة عن مدينته, والسبب هو الحب. وأخذ يقرأ كل ما يتعلق فيها, ويبحث عن كل ما ورد عنها في مصادرٍ كثيرة, إلا أن الكتابة كانت ليست عن معلوماتٍ تاريخيةٍ قديمة, بل عن حوادثٍ حدثت قبل سنوات قريبة, فالروايةُ تؤسس لهُوية المدينة, ونستطيع أن نقسمَ سردية الكتابة في المدينة كانت على قسمين اثنين: القسمُ الأولُ , هو للكوفة قبل ثورة تشرين اكتوبر 2019, والقسم الثاني في ثورة تشرين اكتوبر 2019. هذا التقسيم التدوّيني الذي أرادهُ الكاتب ( الشخصّية) في الكتابة عن مدينتهِ. كانت أحداث ما قبل تشرين تكاد  أن تكون مكررة ومَطروقة على الرغم من السرد الخيالي الممتع, إلا أن الكتابة في تشرين, كان لها الشعور الوجداني الذي هيمن على روح ووجدان كل من الكاتب وشخصيّته.
الشيء الذي أرادهُ الكاتب المؤلف بالاشتراكِ مع الكاتب الشخصيّة, التنظيرُ العقلاني للمدينة, والكتابة الايجابية, والاهتمام بنقدِ العقل الكلاسيكي أو النظرة القاصرة للحياة, خلقَ المؤلف صورةً نقديةً للعقول التي عبثت بها الأساطير والخرافات طويلاً, وأخذ يُنظر في العقلانية النقدية, وخطابهُ موجهٌ نحو العقل السائد, ووضع مفهوماً من مفاهيم العقلانية ألا وهو ( العقل المغاير) صفحة 72. مارسَ الكاتب المبدع الرقابة النقدية على سلوكياتٍ مجتمعيةٍ وانتقدها بشدة, ومن هذه النقود التي وجهها هو أن الناس في مدينتهِ كانت تتخذ من ( جذع نخلة مجاور لكلية القانون مزاراً ..) وهنا يضع اسلوباً أكثر دِلالة من غيره وهو أسلوب التعجب إذ يقول: ( جذع نخلة مجاور لكلية القانون مركز إشعاع العقل القانوني ...) صفحة 72. هذا النقدُ تمهيداً لبناء الهُوية الثقافية للمدينة المُراد تأسيسها ثقافياً ومعرفياً, هنا تدخل المدينة المتخيّلة أو الواقعية طوراً من النقد الايجابي الذي يُقدم لها سُبل المواكبة نحو الحداثة وفكرها الغالب والمهيمن, لا يريد الكاتب لهذه المدينة ولا لسكانها أن تُعشعشَ الاسطورة وتعبث بعقولهم وتحرِّفهم عن منطقيةِ الامور, أو النظرة المنطقية للحياة, يقول في صفحة 62: ( سابقاً, كانت الاجيال تعيش الخرافة, أما أجيال اليوم تعيش ظاهرة, بلع العقل وتغييبه). في هذا النصّ, ينتقدُ الكاتبُ المجتمع في طورين من أطوار حياته, فسابقاً كانت الخرافة تسيطرُ على عقولِ الجمهور وتؤثرُ فيهم أعظم الأثر, نتيجة الجهل المركب الذي يعيشون في ظله, أم اليوم وفي عصر الانفتاح المعلوماتي الكبير والمذهل, تجد أن التجهيل ما يزال سائداً, بتقنيةِ بلع العقل أو تغييبه نهائيّاً لئِلاّ يُفكر أو يتأمل في واقعهِ السّيء. تداخلت عوامل كثيرة في هذا الجهل المركب, لأن هذه التقنيات العلمية وعصر الانفتاح المعلوماتي جاءت بنتائجَ عكسية في الجمهور, إذ استغلت الجهات المسؤولة هذه المنصات التقنية, وزرعت فيها التجهيل المُمَنهج الذي يُغطي العقل بغشاوةٍ ويُبعدَ عنه البصيرة في الأشياء والأمور, والمأزق الذي وقع فيه الناس, أنّهم مسؤولون عن هذا التجهيلِ, فالجهلُ خطيئةٌ لا تُغتفر ولا يُبرر لها, ولا يمكن التسامح في جهلِ إنسان عصر الحداثة, كون المعلومة متوفرةٌ في كلِّ الظروف وفي كلِّ الأوقات, ولكن الإنسان ما يزال ينظر بعقلهِ القديم أو رؤية عقله القديم, حتى أن تقنيات الحداثة صارت مصدراً من مصادر تغييب العقل وتجميده, المؤلفُ ينتقدُ هذه الأفعال ويدعو إلى التحرر منها باستخدام أسلوب التعجب والاستنكار الذي يؤثر أكثر من غيره من أساليب النقد الضمني.
اتخذت صورة النقد في الرواية صوراً عدة, من هذه الصور هو الانتقاد حتى للعمران الديني, فهو يرى في تغيير عمارة مسجد الكوفة وبيت الامام علي الموجود في الكوفة ( حسب المروي الشفاهي للمدينة) سلب لتلك الروحية القديمة التي تذكر الناس وتجعلهم يستشعرون ويرجعون في التاريخ إلى الوراء متأملين جدران ذلك البناء القديم, فتحويل البناء القديم إلى طرازٍ معماريٍ ووضع أجود أنواع السيراميك والمرمر سلب روحية المكان الذي كان مثلاً لزهد صاحبه حتى صار الإمام الأعلى للزهاد في الدنيا. هذه الصور تلمحها كثيراً في مخيلة السارد المؤلف, الجذورُ الروحيّة للمدينة ماثلة في مخيلة الكاتب ويه التي ألهمته هذه الكتابة في هذا الإسلوب.
أما القسم الثاني من التأسيس للهُوية, هو ما السرديات التي حصلت إبان ثورة تشرين, ويصح أن نُسمي هذه السرديات, بالسرديات الوطنية, كون السرد صار يُحاكي الروح الوطنية, وتحول الخطاب إلى خطابٍ حماسيٍ كله ترنم بُحب الوطن والثوار الذين تصدوا لهذه الثورة التي كانت نقيّةً بيضاء, وكان عماد الثورة , شبابٌ لا تتجاوز أعمارهم العقدين! كان الكاتب في هذا القسم من السرديات, يتفاعل تفاعلاً إيجابياً مع خطاب هذه الثورة ونزوعه الوجداني, كان واضحًا, من طبيعة اللغة السردية. صارت المدينة تعني المحافظة بل تجاوزت ذلك لتكون المدينة البلد كله ( العراق), لأنّ المناطقية في السرد لم تعد هي التي تملي على الكاتب, بل صارت القضية عامة, تشمل كل أماكن الوطن.
الأدواتُ السردية المهيأة لتأسيس هُوية للمكان _ المدينة ( الكوفة), كان يعتمدُ تقنية بث خطابين متناوبين, خطابُ المؤلف وخطاب الشخصية, التناوبُ في بثِ الخطاب, كان يتأرجح كثيراً بين شدٍ وجذبٍ, إلا أن الهيمنة المؤدلجة كانت للمؤلف الكاتب, الذي تأثر في القسم الثاني من البناء وهو ما بعد ثورة تشرين, هذه الثورة وبروحها وبنقاء سريرتها, ألهمت الكاتب وأمدته بعنصر الواقعية, وأبعدته عن عنصر الخيال كثيراً! وهنا نسجلُ في السرد هِنة, وهي أن الروايةَ وقعت تحت تأثير الواقعية المباشرة, فأنت تجد في القسم الأول, سرداً خيالياً, وتكاد تشعر باللّذة والبهجة وأنت تُساير الأحداث وتمضي في قراءتها, إلا أن تجربة الكتابة الآنية في ثورة تشرين, أفقد سحر السرد الخيالي وجعل الرواية تنحو منحى الواقعية المباشرة! الهُوية التي اتصفت بها المدينة, هي هوية المدينة الوطنية الرافضة للفساد والمحاصصة , وهذه الهوية, اشتغلت على الواقعية في قسمها الثاني. كثيراً ما نجد تداخلاً في صوت المتكلم, أهو الكاتب المتعاطف مع المدينة أم الشخصية؟ هذا المؤلف واعٍ لما يكتب, فهو لا يدوّن إلا عن وعيٍ مسؤولٍ. إنَّ ملامحَ المدينة التي بناها السارد أو الذي أراد أن يضع لها مكانة تليق بمكانتها التاريخية وعراقتها الأصيلة اتضحت هذه المعالم واكتملت صورتها عندما اشتغلت على قسمين, لذا, السرد المبأر كان التقنية الأفضل في هكذا نوع من البناء. فصورةُ الهوية السردية لهذه المدينة , انضحت معالمها في نهاية القسم الثاني وبه انتهت الرواية, إذ تكونت مدينة, عُصيّة على التدجين والاستغلال, ومدينة وطنية فاعلة ومؤثرة في غيرها, هذه هي الهوية التي اشتغل عليها السرد وقام البناء الفنّي للرواية على تمثيلِ صورة لهوية المكان, فالمكانُ الأدبي, يُمثل العنصر الثابت والجذر في بِنية العمل الفنّي, لم يخرج السرد عن مكانهِ ( المركزي الأوحد) ولم يذهب إلى غيره من الأماكن, وبهذا مصداقٌ لما وردَ في العنوان, فهي روايةٌ مكانيةٌ, أرخت ووضعت هوية لهذا المكان الحقيقي ألا وهي مدينة الكوفة العراقية.

إرسال تعليق

0 تعليقات