ويبقى الأثر

مشاهدات




استاذه زينب عبد الباقي كاتبة لبنانية

د.محمد فتحي عبد العال كاتب وباحث


 

في تلك المدينة الوادعة حيث تنام الشّمس على كتف البحر الأبيض المتوسّط على أمل عودة الحقّ إلى أهله، مدينة الأحلام "حيفا " وُلِد عدنان وعاش  في أسرة من الأُسَر التي ظلّ أجدادها يعيشون في فلسطين المحتلّة  بعد حرب مشؤومة أسفرت عن احتلال العدوّ للأراضي المقدّسة عام 1948.

 كان عدنان  يدرس في مدارس الكيان الإسرائيليّ المغتصب، وذات يوم نظّمت إدارة المدرسة مسابقة علميّة دوليّة في الكيمياء، فأتيحت له فرصة التّعرّف على أطفال  مشاركين من أنحاء الوطن العربيّ  ومنهم محمود الطّفل اللّبنانيّ الذي يعيش في إحدى القُرى الجنوبيّة. وكانت الاتّصالات لا تنقطع بين عدنان ومحمود على "الماسينجر" لأن قرعة البحث جمعتهما معًا.  

وذات يوم حكى عدنان لمحمود قصة شغفه بالكيمياء قائلًا:

أتدري يا محمود أنّ سرّ حبي للكيمياء بدأ مع شغفي بتجارب حاييم وايزمان لذلك اخترته ليكون موضوع بحثنا المشترك . 

قال محمود:

حاييم وايزمان ؟ أتقصد العالِم الكيميائيّ الشّهير الذي أصبح في ما بعد أوّل رئيس وزراء لدولة الكيان الغاصب؟  

قال عدنان : بالضّبط .

أجابه محمود بصوت مخنوق:

كم أنا حزين يا عدنان، هل تفتخر بأعدائك ؟

قال عدنان: لم أفهم

فأوضح محمود : كيف لنا أن نجري بحثًا عن عالِم ينتمي إلى كيان جرائمه  بحقّ وطنك فلسطين ووطني لبنان لا تُنسى . 

قاطعه عدنان: 

لكنّ العلم لا شأن له بما تقول، نحن نتحدّث عن عالِم. ما لنا ولسيرته الذّاتيّة؟

صمت محمود قليلًا ثم قال: ماذا تقول؟ إنّه عدوّ.. ألا تفهمني ؟ 

وقبل أن يجيبه عدنان استرسل محمود : اسمع ، لن أستطيع أن أكمل الحوار معك اليوم فجدّتي قادمة لزيارتي وستصل بعد دقائق . سأعاود الاتّصال بك بعد عودتها إلى بيتها.

عدنان : حسنًا، إلى اللّقاء.

محمود : إلى اللقاء . 

وصلت الجدّة فاستقبلها محمود بالتّرحاب وحين لمحت الغضب بين حروفه سألته عن السّبب فأخبرهاعن عدنان، فطلبت منه أن يفتح " الماسينجر" ويتحدّث إلى عدنان في وجودها.

فرح محمود برغبة جدّته ووافق على الفور. وهكذا قام إلى حاسوبه ففتحه واتّصل بعدنان الذي كان ما يزال موجودًا، فقدّم إليه جدّته وتبادلا التّحيّة ثمّ سألته الجدّة:

أتدري يا عدنان ماذا اخترع حاييم وايزمان حتّى كوفىء بمنصبه وصار رئيس وزراء لكيان العدوّ؟

قال عدنان :لقد توصّل إلى اختراع مادّة كيميائيّة تنتج من تفاعل الجلسرول مع حمض النّيتريك المركّز 

قالت الجدة :أتدري ما اسمها وما دواعي استخدامها؟

قال عدنان : ثلاثي نترات الجليسرين. 

صاح محمود قائلًا : إنّه الدّيناميت. 

قالت الجدّة: نعم، إنّه الدّيناميت، المادّة المتفجّرة الحارقة التي عانى العالم من ويلاتها تفجيرًا وهدمًا وقتلًا وهذه هي الكيمياء الضّارة، أمّا الكيمياء النّافعة فالعرب أهلها .

ثم أردفت الجدّة : هل قرأتما عن جابر بن حيان ؟

قال عدنان: لا 

أمّا محمود فقال: لم أقرأ عنه، ولكنّي سمعت به فهناك أسرة علميّة في المدرسة تحمل اسمه 

قالت الجدة :إنّه أبو الكيمياء النّافعة حقًّا

قال الصّبيَّان في صوت واحد: كيف ؟

قالت الجدّة : كانت أصول أسرة جابر بن حيّان من اليمن إلا أنّ أباه انتقل إلى الكوفة ومنها إلى خراسان  ليعمل صيدلانيًّا. 

قال محمود:إذن كان للأب تأثير في مسار ابنه العلميّ 

قالت الجدّة : أجل الأبناء يتأثرّون عادة بما يفعله الأباء. 

قال عدنان : تمامّا أيّتها الجدّة ولكن لماذا هذا الانتقال من مدينة لأخرى؟

قالت الجدّة :استنتاج ذكيّ منك يا عدنان والسّبب يكمن في الصّراعات السّياسيّة التي أضعفت أمّتنا العربيّة عبر التّاريخ. 

قال محمود: كيف ؟

قالت الجدّة : كان الصّراع على أشدّه بين الأمويّين والعباسيّين وكان والد جابر في معسكر العباسيّين الذين رجحت كفة الصّراع لصالحهم في النّهاية.وفي كَنَفِهم عاش الأب ومن بعده الابن جابر حيث استقرّا في الكوفة. ونهض جابر بالكيمياء من الخرافة لتصبح علمًا نافعًا 

قال عدنان : كيف ذلك؟

قالت الجدّة: كان كلّ ما يدور في عقول النّاس حول الكيمياء هو محاولة تحويل المعادن الرّخيصة إلى معادن نفيسة لتحقيق الثّراء فإذا بجابر يقدّم للبشريّة مجموعة من الاكتشافات الكيميائيّة الكبيرة التي اعتُبِرَتْ أثمن من المال  فاكتشف القلويّات والأحماض ومنها حامض النّيتريك يا عدنان الذي أشرت إليه في تجربة وايزمان علاوة على تنقية المعادن وصناعة الزّجاج وصبغ الأقمشة والطّلاء لمنع الصّدأ وهو أوّل من استخدم الموازين الحسّاسة في عمله. 

انبهر الصّبيّان بحديث الجدّة التي سألت عدنان: 

هل رأيت يا عدنان كم كان دور العرب مفيدًا ومؤثّرًا في تقدّم البشريّة ؟

قال عدنان :أجل أيّتها الجدّة وسوف أتعاون مع محمود في تخصيص بحثنا لإسهامات جابر بن حيّان وغيره من العلماء العرب الذين خدموا الانسانيّة بما قدّموه. 

قال محمود : وأنا على استعداد تامّ للعمل .

قالت الجدّة مسرورة : بوركت جهودكما يا ولديّ العزيزين .سأترككما الآن للعمل على بحثكما المشترك مع تمنيّاتي لكما بالتّوفيق .

ومضت الجدّة إلى بيتها بينما انصرف الباحثان الصّغيران إلى العمل الذي اتّفقا عليه.




إرسال تعليق

0 تعليقات